الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
2- الصلاة والسلام على رسول الله
العقيدة
جامع الإمام أبي حنيفة النعمان بحلب
19/5/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
شرح جوهرة التوحيد
البيت الأول (2)
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله ربّ العالمين, اللهم صلِّ على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبيِّ الأميِّ وعلى آله وصحبه وسلم.
يقول صاحب الجوهرة رحمة الله عليه:
الحمد لله على صِلاتِهِ ...............ثم سلام الله مع صَلاتِهِ
على نبيٍّ جاء بالتوحيد...............وقد خلا الدينُ عن التوحيد

ثم سلام الله مع صَلاتِهِ: وهنا قوله: "مع" يفيد التلازم, فقد يقول قائل: أليس من الواجب تقديم الصلاة على السلام؟ نقول: نعم, ولكن لما وضع الناظم رحمه الله (مع) دلَّ ذلك على أنه يريد السلام ملازمًا للصلاة, وهذا يقودنا إلى معرفة معنى الصلاة ومعنى السلام, وسنختار في ذلك ما ذهب إليه أهل التحقيق, فنقول:
الصلاة: من الله تعالى عمومًا هي: التقريب, يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 43] فلما كان العبد في محل الظلمات كان بعيدًا عن الله تبارك وتعالى, ساقطًا في المنـزلة, فلما أخرجه من الظلمات إلى النور أخرجه إلى محل القُرْب, فكانت الصلاة إخراجًا من الظلمات إلى النور أي تقريبًا, لأن الظلمات بُعدٌ أما النور فهو قُرب, والإخراج من الظلمات إلى النور تقريب, وهذا الخطاب يَعُمُّ كلَّ المؤمنين, لأنه قال: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} والمقصود المؤمنون, ولكن بحثنا هو في الصلاة على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم:
قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] ثم أتى بأمر تكليفي عام فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
وقد يقول قائل: ورد في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يُصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد أنه يسلم عليه, ولكن الأمر لنا ورد بالصلاة والسلام عليه, فهو قال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} وما قال: يُسلِّمون.
نقول: القرآن يجب أن نفهمه جملة واحدة, لأنك لا تستطيع أن تفهم القرآن حتى تقرأه كله, ألم يقل سبحانه وتعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] ؟ وكذلك قال: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 181] ؟ ومن هو سيد المُرسَلين؟!
فإذا كان السلام على المرسلين, فمن باب أَوْلى أن يكون على سيد المرسلين, فإذًا النص القرآني يُثبت أن الله تبارك وتعالى صلى على النبي عليه الصلاة والسلام وسَلَّم عليه.
وربما يدلُّنا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} في تركيبة هذه الآية على خصوصية عجيبة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, لأن الذي يقرأ بسرعة دون أن يتوقف عند التركيب اللفظي, والدلالات التي يعطيها هذا التركيب, ربما يفهم أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} مثل قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}.
نقول: لا, فهناك فارق كبير, وأين نحن من منـزلة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, التي ما فوقها في الخَلْقِ منـزلة؟!
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} فأتى بالاسم الأعظم الجامع لكل الأسماء, فكل الأسماء الحُسنى لله سبحانه وتعالى مجموعة في الاسم الأعظم: الله, وعندما أتى بالخطاب الثاني أتى بـ: "هو" الغيبية, فقال: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} فأتى بضمير مع اسم موصول, فقال: {هُوَ} لأننا في محلٍّ أُمرنا فيه أن نُصدِّق بالغيب, و{هُوَ} تستعمل للغائب, لكنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ} [الأنفال: 64] وما قال: يا أيّها النبيّ حسبُك هو, لأن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالله, أي رسول الله صلى الله عليه وسلم موصول بالاسم الأعظم الجامع لكل الأسماء, لكن الأمة المُصدِّقة التي صدَّقت بالخبر قال في حقها: {هُوَ} وما أتى بالاسم الأعظم.
ثم عندما أراد أن يُبيِّن لنا موقعنا, وأنه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة الذي ينقل لنا عن الله, قال له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] أي قل لهم: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فهنا في الخطاب قال: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} ثم عندما قال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ} لم يجعل بينه وبين صلاة الملائكة فعلاً في التركيبة اللفظية, فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} وأما في الصلاة على عموم المؤمنين قال: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} فجاء بفعل يفصل بين {هُوَ} وبين الملائكة, فقال: {هُوَ الَّذِي} ثم أتى بفعل, ثم أتى بعدها بلفظ الملائكة.
لكنه دلَّنا في الآيتين من خلال هاء النسبة في ملائكته (أي التي تنتسب فيها الملائكة إلى الله): {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ} و: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} على التقريب, لأن هذه الهاء هاء نسبة, فلما نسب الملائكة إليه بيَّن لنا أن المحل محل تقريب.
وأما حين أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم قال: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} وما قال: لملائكته, {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ, فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ, فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ} [ص: 71-73] وما قال: ملائكته, لأن السجودَ محلُّ ذلٍّ وانطراح, ولذلك ما أضاف هاء النسبة.
وهذا كله لمن قرأ القرآن وتدبَّره وفَهِمَه, فهناك المعنى: تقريب, لكنه دلَّك على الفارق في التقريب, فليس تقريب المؤمنين كتقريب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
من خلال ما سبق, نجد أن هناك فارق كبير بين قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَملائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} وبين قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ}.
وكذلك تكرر لفظ الملائكة في القرآن في مواضع عدة, منها:
{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ, ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 27-28] وهذا نص يفيد تعذيب الملائكة للكافرين عند قبض الروح, فما قال: "فكيف إذا توفتهم ملائكته" لأنه سبحانه أرحم بعباده من الوالدة بولدها, فلا يناسب في محل التعذيب, عندما تعذِّب الملائكةُ الكافرين, أن يقول: ملائكته, لأن هذه النسبة تُعطي عند ذلك معاني أخرى, فهي نسبة قُرب.
مخلوقاته لها أحكام, فجهنم تتوق إلى تعذيب الكافرين, وملائكة العذاب يتوقون إلى تعذيب الكافرين غيرةً, لأنهم رأوا أن هذا الكافر قد عصى الله وجحد ... ولكن المولى سبحانه وتعالى وصفه (الجمال) غالب, والرحمة تغلب الغضب.
سأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يُحاسبنا؟ وكان ينتظر الجواب, فإذا أجابه رسول الله: الملائكة ستحاسبنا, فالقضية منتهية, لأن الملائكة تأتمر بأمر الله فتدقق تدقيقًا شديدًا, والذي كان حاضرًا هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما قال: الملائكة, لكنه قال: الله, فقال الأعرابي: واللهِ إذًا نجونا, فإذا كان الله هو الذي سيحاسبنا نجونا.
ثم لفهم معنى التقريب, علينا أن نرجع أكثر إلى اللغة وندخل فيها, وما أحلى أن نفهم لغتنا, فلغتنا العربية عجيبة, والذي يفهم اللغة يفهم دينه, فهذه اللغة فيها أسرار, وفيها كما يقول علماء اللغة: الأسرة اللغوية, فالكلمة لها أسرة, فعلى سبيل المثال ومن باب المقارنة:
نقول في لغتنا: كتب يكتب كتابًا ووضعه في المكتبة فهو كاتبٌ, وأما في لغة كاللغة الإنكليزية مثلاً, نجد أن الكتاب: book, وكَتَبَ: write, ومكتبة: library ... فلا يوجد تقارب, أما اللغة العربية فهي أسرة, ولكن لماذا لا نصير أسرة, مع أن لغتنا أسرة؟!
يقول ابن خلدون في مقدمته: (العرب لا يوحِّدهم إلا الدين, ولا يسودون إلا بالدين).
ومقدمة ابن خلدون كتاب عظيم جدًا في الاجتماع, وهو من أحسن من كتب في الاجتماع, وعندما أفرد بحثًا عن العرب بيّن أننا مهما ضحكنا على أنفسنا, فقلنا مرة بالقومية, ومرة بالعرقية ... فسنبقى آخر الأُمم, في أذنابها, في مؤخرة الركب ... ولن ينفعنا إلا الدين, فالقرآن عربي, وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عربي, فإذا نحن فهمنا وظيفتنا, فهمنا أن الله سبحانه وتعالى لم يجعلنا عربًا من باب التفاخر, وإنما من باب المسؤولية, فإذا كنت عربيًّا فأنت أقدر على فهم لغتك, وبالتالي تستطيع من خلالها أن تُوصِّل للآخرين وأن تُوصِّل للعالم ما أمرك الله أن توصله, فأنت إذًا مُكلَّف تكليفًا مضاعفًا, لكننا الآن مشغولون, وقد أشغَلَنَا أعداؤنا بصراعات فكرية وتناحرات, حتى نُصرف عن ديننا الذي هو سبب عزَّتنا: نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام, ومهما نبتغي العزة بغيره أذلَّنا الله.
إذًا ما الذي نستفيده من التقريب ومعنى التقريب؟
لقد فهمنا قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} وهذا تقريب, والمعنى ظاهر, لكن إذا رجعنا إلى لغة العرب وجدنا أنه:
يقال للذي يُوضع في النار: "يُصْلَى في النار" لأنه يلتزمها, فالمُلْتَزَم سُمِّي كذلك لأنك تقترب منه حتى لا يكون بينك وبينه أي فاصل, أي شدَّة قُرْب, فلما أُلزم والتزم النار, قالت العرب: "يُصْلَى في النار", أي من شدة اقترابه فيها ومنها.
كذلك يُقال: صَلَيت اللحم, ويُقال: صلَّيت اللحم, فما الفارق؟
نقول: إذا كان إحراقًا تقول: صَلِّيت, وإذا كان من باب أنه وُضِعَ على النار للشواء فقط لا للإحراق تقول: صَلَيْت.
إذًا صَلَّى: بمعنى أحرق, وهذا في لغة العرب, فإذا صَلَّى ربُّنا فهذا يعطيك الصِلةَ والعلاقةَ بين التقريب والمعنى اللغوي الذي تستعمله العرب, الذي هو الإحراق.
جاء في الحديث الصحيح: (حِجَابُهُ النُّورُ), وفي رواية في صحيح مسلم: (حِجَابُهُ النَّارُ, لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ما انتهى إليه بَصَرُهُ) أي لاحترق العالم.
ولا بد أن يكون مع التقريب عناية خاصة من المولى سبحانه وتعالى, لهذا جاء مع الصَلاةِ السلامُ: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فإذا وُجد السلام مع التقريب, أَمِنَ العبد من الاحتراق.
قال سبحانه: {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] وهنا الرحمة بمعنى السلام, لأنه سبحانه وتعالى يعتني بك, فلا يريد من تقريبك إحراقًا, إنما يريد تكريمك.
فلو قال حينما أُلقي سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار: "يا نار كوني بردًا" لتجمَّد منها, لأن النار ستكون عند ذلك باردةً أشد البرودة, لكن الله سبحانه وتعالى قال لها: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} فكان سيدنا إبراهيم وهو في النار كأحسن حالاته التي يكون عليها من العناية والبرودة, وأفضل مَكان للاستجمام على وجه الأرض لا يمكن أن يُقارن بالمكان الذي كان فيه سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما أُلقي في النار, لأن السلام كان بأمر الله سبحانه وتعالى في النار.
ومن هنا قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} وقال في موضع آخر: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} وقال: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}.
لكن في التكليف قد لا نفهمها, فلكي لا يحصل عندنا التباس في التكليف بسبب محدودية عِلْمنا, قال لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فأكَّد ذلك.
ومن العجب أن بعضهم مع الأسف يتلاعب بالألفاظ, فيقول: "المعنى: يا أيها الذي آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا له أموركم" لكن السياق هنا يقتضي: اللهم صلِّ على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلِّم, فالسياق هنا أنه إذا ذُكر اسم سيّدنا محمّد عليه الصلاة والسلام ينبغي أن يقال: صلى الله عليه وسلم, وحتى رسولُ الله إذا ذكر اسم محمّد كان يقول: صلى الله عليه وسلم, وفي صحيح البخاري عندما استفتح سيّدنا جبريل السماء, قالوا: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم.
لذلك لما أخبر المولى عن صلاته وسلامه فرَّق بينهما, حيث أورد الصلاة في آية والسلام في آية أخرى, لأنه ليس بمكلَّف, وهو سبحانه عليم خبير, قال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} وفي موضع آخر قال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}, وقال: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ}.
أما في التكليف, وحتى لا يلتبس الأمر علينا قال: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فلا يَصِحُّ أن نكتفي بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل نُصلِّي ونُسلِّم عليه.
وهذا كله في معنى من معاني الصلاة من الله سبحانه وتعالى والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلِمَ نقول: اللهم صلِّ على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, ولا نقول: يا رسول الله الصلاة والسلام منّا إليك, مباشرة؟
نقول: لأن الله سبحانه وتعالى أعلم بما يليق بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, فأحلنا الأمر إلى مولانا, وقلنا: يا رب أنت تعلم مقام حبيبك, فصلِّ عليه كما يليق به.
ومن الصِيغ التي كان الإمام الشافعي يُصلِّي بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم, قوله: اللهم صلِّ على سيدنا محمد كُلَّما ذَكَرك الذاكرون, وغفل عن ذكره الغافلون.
وذلك لأن الذين يذكرون الله أكثر من الذين يذكرون رسول الله, والذين يغفلون عن رسول الله أكثر من الذي يغفلون عن الله: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198].
أما الصلاة من الملائكة فهي الاستغفار والدعاء, وأما الصلاة من البشر فهي التضرُّع والدعاء.
يقول الإمام الخطابي رحمه الله:
الصلاة التي هي بمعنى التعظيم والتقريب والتكريم لا تُقال إلا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, وأما الصلاة التي هي بمعنى الدعاء وطلب البركة فتُقال لغيره, ومن ذلك دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث الصحيح, حيث قال: (اللّهُمّ صَلِّ عَلَى آلِ أبِي أَوْفَى) أي بارك لهم, وأكثِر لهم البركة, فهو يدعو لهم.
إذًا الصلاة بمعنى التعظيم والتكريم وأعلى درجات التقريب خاصَّةٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم, فنقول: اللهم صلِّ على سيدنا محمد, ويصحّ: وعلى آله, بالتبعية, ويصح: وعلى آله وصحبه وعلى فلان ... وهذا كله بالتبعية.
أما إذا أردنا أن نُصلي على فلان فقط, فهذا فيه خلاف بين العلماء:
فالجمهور على أنه لا يُبْتَدأ بالصلاة على غيره صلى الله عليه وسلم ابتداء, لكن هناك قول للخطابي وهو: إذا أردت أن تُصلِّي على غيره فيجب أن تُحْضِر في ذهنك وفي قلبك أن ذلك ليس بمعنى التعظيم, وإنما بمعنى الدعاء وطلب البركة.
وهنا توجد مسألة:
هل ينتفع سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاتنا؟
نقول: التحقيق أنه يجوز, فالكبير ألا ينتفع من الصغير؟ ألا ينتفع السيد من خادمه؟ فليس شنيعًا ولا عيبًا أن ينتفع الكبير من الصغير, لكن يجب أن تعرف أنك لست فقط سببًا في انتفاع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, وإنما صلاتك عليه هي سبب انتفاع لك.
لذلك نقول: اللهم زِد رسول الله صلى الله عليه وسلم قُربًا, وعظِّمه في الدنيا بإعلاء ذكره, بإظهار دعوته, بإبقاء شريعته, بتشفيعه في الآخرة في أمته ... لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (سَلُوا اللّهَ لِيَ الوَسِيلَةَ).
فالتحقيق إذًا أنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ينتفع بصلاتنا وسلامنا عليه, وما أحلى أن نستشعر أننا نُقدّم هدية لحبيبنا, فهذا معنى جميل جدًّا, لكنها تعود علينا.
النبي عليه الصلاة والسلام رآه مرة سيدنا عبد الله بن عوف, وهو ساجد وقد أطال السجود, حتى خَشِيَ أن يكون اللَّه قد توفّاه من شدة ما أطال سجوده, فلما استغرب ذلك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له: (لَقِيْتُ جِبْرِيلَ, فَقَالَ: إِنِّي أُبَشِّرُكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: مَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ, وَمَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ), فلما بشَّره جبريل هذه البشارة, سجد ذلك السجود الطويل.
وفي حديث: (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً, صَلَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ عَشْرًا), وفي رواية في معجم الطبراني: (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً, صَلَّيْتُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا) فرسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي عليك, فما أكرمك يا حبيبنا يا رسول الله!
وهذا كله في معنى الصلاة.
أما السلام: فهو التحية اللائقة به صلى الله عليه وسلم, فأنت حين تقول: السلام عليك أيها النبي, وأنت في صلاتك, فهي تحية.
فعندما يكون السلام مع الصلاة, أي عندما تطلب من الله سبحانه مع الصلاةِ السلامَ, فهنا يكون الأمان والرحمة مع التقريب, وعندما تقول: السلام عليك أيها النبي, فأنت تُحيّي تحيةً تليق به صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
ثم متى بدأت الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبت في الكُتب؟
في رسائله صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بالحمد, لكن الأمة بدأت تثبت الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب, واستحب العلماء ذلك, وقد قال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ), فالعمل بأمور كثيرة لها أصل في الكتاب والسُنّة إنما استحسنها العلماء, وأجمعوا على أنها حسنة, ومن جملتها هذا.
والآن اجتماع المسلمين في شهر الربيع مما استحسنه أهل العلم, لأنه فرصة حتى يتذكَّر الإنسان منـزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وحتى يُحرِّك هذا الاجتماع الحُبَّ في قلبه, فاستحسن العلماء ذلك, لأنه فعلٌ نتائجه حميدة, وأما الذين منعوا أن يجتمع المسلمون في شهر الربيع فإنهم اجتمعوا في ذكرى تأسيس دولتهم, واجتمعوا في ذكرى دخول مليكهم الأول, واجتمعوا, واجتمعوا ... أما عندما أطلَّ وجه القمر صلى الله عليه وسلم على الكون, وعلى الأرض فنوَّرها, قالوا: هذا لا يجوز, فإذا دخل المَلِكُ الفلاني الدولةَ الفلانية, وقتل العائلة الفلانية, وجلس مكانها وحَكَم, نحتفل بذكرى إحياء فِعْلته, وأما أنه وُلِد على وجه الأرض قمر الوجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, فلا يجوز أن نجتمع! بل سنجتمع, ولن نكترث لهم.
فإثبات الصلاة والسلام في صدر الكتب والرسائل, أول ما بدأ عندما تولى بنو العباس الخلافة, في ولاية بني هاشم, ولم يكن قبل هذا.
نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والقَبول, والحمد لله رب العالمين.
أعلى الصفحة