الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
المحاضرة 3 : الطريق إلى العقيدة الإسلامية
العقيدة
جامع الإمام أبي حنيفة النعمان بحلب
31/3/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين, الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات, اللهم صلِّ على سيّدنا محمّد عبدك ورسولك النبيّ الأمّيّ وعلى آله وصحبه وسلّم.ديننا كله مجموع في حديث مشهور يسمى أمَّ السنة، ويسمى حديثَ جبريل الذي رواه سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، ورواه سيدنا أبو هريرة عندما جاء سيدنا جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فبيَّن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام الخمسة وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان، والحج، وسأله عن أركان الإيمان الستة فأجابه صلى الله عليه وسلم: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وسأله عن الإحسان فقال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وفي رواية: أن تخشى الله كأنك تراه.فأين العقيدة الإسلامية في هذا الحديث؟إنها ركن الإيمان، فالركن الإسلامي هو عبادات بدنية أو مالية، أما ركن الإيمان فإنه عبادة قلبية تصديقية، وأما ركن الإحسان فهو انجذاب الروح إلى حضرة مولاها حتى لا تتعلق بغيره ولا تلتفت إلى سواه.إذًا علم العقيدة، هو ركن الإيمان.ونلاحظ ونحن نستعرض هذه الأركان الستة أنها ترجع:أولاً: إلى العلم بالله، حيث قال: أن تؤمن بالله.ثانيًا: إلى العلم بالمغيبات, بقوله: وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.فرجع علم العقيدة إلى العلم بالله والعلم بالمغيَّبات التي أخبر الله تعالى عنها.كيف يمكن للإنسان أن يعلم شيئًا؟عندما أريد أن أعلم شيئًا عن المحسوسات، فالطريق إليها الحواس: أنظر إليها، أمسكها، أشمها ... إذًا الحواس طريق إلى العلم بالمحسوس، ثم كيف أستطيع أن أتعرف إلى شيء استدلالاً؟أذكر مثالاً: هنالك ما يسمى بالحمض النووي، وهو خاص بكل إنسان, فإذا شوهد هذا الحمض النووي من خلال قطرة دم داخل غرفةٍ ما ولم يُشاهد صاحبُها فيمكن القول: إن صاحب هذا الدم إما أنه دخل الغرفة أو أُدخل شيء منه فيها، بمعنى لا يمكن أن يأتي هذا الحمض النووي إلى داخل الغرفة إلا بسبب الصلة بينه وبين هذا الشخص، وهكذا يستطيع الإنسان أن يجزم بوجود شيءٍ لم يره بعينه, ولا أمسكه بيده، ولا سمعه بأذنه, وإنما استدل عليه استدلالاً، وهذا الذي أشار إليه يومًا أعرابيٌّ عندما قال: البعرة تدل على البعير, إذًا هذا هو الطريق الثاني إلى العلم.فالطريق إلى العلم:1- الحواس.2- الاستدلال، أي: أستدل بشيء محسوس على شيء مغيب.3- الخبر: فمثلاً لو كنا في مكان ما, ثم أتى شخصٌ وأخبرنا بخبرٍ ما، ثم أتى آخر لا يعرف الأول وأخبرنا نفس الخبر، ثم أتى ثالث فرابع حتى تواتر هذا الخبر، وأصبح بحيث لا يمكن أن يجتمعوا ويتفقوا عليه، فهذا أيضًا سببٌ من أسباب العلم.ويُضاف إلى كل هذا: السماعُ من رسول، بمعنى: الذي سمع من رسول سماعًا مباشرًا فهذا يفيد العلم.إذًا فالعلم بأي شيء إما أن يكون طريقه الحواس أو الاستدلال (فالعقل يستطيع أن يصل إلى العلم عندما يرى دليلاً)، أو الخبر، ولكن كيف يمكن الوصول إلى العلم بالله سبحانه وتعالى، هل يوصل إليه بالحواس؟لا, لأن مولانا سبحانه وتعالى لا يُدرك بالحواس، ولا يُعرف بالقياس، فهل يمكن للعقل أن يحيط بمولاه، بمعنى أنه رأى إنسانًا فأراد أن يقيس مولاه على هذا الإنسان بنفس المعايير والموازين؟لا، لأن مولانا لا يقاس بخلقه، فخلقه عاجزون فقراء, قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: 15].جاء رجل إلى عارف اسمه يحيى بن معاذ فقال له: أخبرنا عن الله، فقال: إلهٌ واحد، قيل له: كيف هو؟ فقال: ملِكٌ قادر، قيل: أين هو؟ فقال: هو بالمرصاد, وهنا تتجلى حكمة هذا العارف، فالسائل يسأل عن الأينية المكانية، وهو يجيبه بأفعال الحق سبحانه، فعندما قال: أين؟ قال: هو بالمرصاد.فإن كنتَ موافقًا له أحبَّك وأكرمك وأعطاك وقرَّبك، وإن كنت تفعل ما يغضبه ويسخطه فإنه يبتليك، وينزل عليك ما يذكرك: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة: 21] إن تابوا إليَّ فأنا حبيبهم, وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم, أبتليهم بالمصائب لأُطهّرهم من المعايب, (رحمتي سبقت غضبي).إذًا لما امتنع أن نصل إلى إدراك حضرة مولانا سبحانه وتعالى بالحواس، ولا يمكن أن نقيسه على خلقه, لأن الخالق غير المخلوق: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل: 17] وقال سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11] وقال: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات: 180] فما بقي إلا الخبر الصادق طريقًا للعلم، وهذا الخبر الصادق مفصَّل ومبيَّن, ولكن يوجد هنا إشكال:وهو أن بعض طلبة العلم الذين لم يتلقَّوا هذا العلم من مصادره, لم يفرّقوا في الخبر بين نوعين، أما النوع الأول فيسمى المحكم, وأما النوع الثاني فيسمى المتشابه, وهذا بنص القرآن الكريم, وأهل السنة والجماعة عرفوا ذلك, وهنا يتميز هؤلاء عن الذين أرادوا أن يأخذوا الخبر لكن بدون علم.فما معنى المحكم, وما معنى المتشابه؟المحكم هو خبرٌ يفهمه العقل، ويؤيده بالأدلة, كقوله تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [البقرة: 163] فالذي ينظر إلى هذا الكون العجيب بشمسه وقمره ونجومه وأفلاكه وما فيه من الانتظام ... لا بد أن يقول: إن الذي وضع هذا النظام الواحد إنما هو إله واحد، ثم من خلال التجربة نجد أنه عندما يكون هناك شريكان يحدث الخلل والاضطراب، ولنتصور مدرسة لها مديران، أو دولة لها رئيسان، أو مملكة لها ملكان، أو طائرة لها رُبّانان ... فما الذي سيحدث؟الطائرة ستقع، والمدرسة ستنتهي، والمملكة أو الجمهورية سيفسد نظامها، لأنه لا بد من التوحيد، وهذا الكون مثاله مثال المملكة، والله سبحانه وتعالى قال في نص القرآن: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء: 22].وهذا نصٌّ محكم عندما يقرأه العقل يأتي بألف دليل موافق له، فما كان واضحًا للعقل في الخبر فهو محكم، لا يحتمل تأويلات، فهو نص يعطي دلالة واحدة، والعقل يأتي بأدلته ليخدم هذا النص.أما الإشكالية فهي في النوع الثاني، لأنه قاد البعض لأن يقولوا: "أنتم تقولون: العلم بالله مصدره الخبر، وهذا (أي المتشابه) خبر", فأَخَذُوا هذا الخبر المتشابه وأجرَوه على ظاهره, فوقعوا في التشبيه والتجسيم لحضرة الله سبحانه، فالإشكال في المتشابه.فالحواس تحب هذا النص لأنها تفهمه, وتريد أن تشبِّه من خلال ما تعرف، وتقول: هذا نص جميل لأنه من جنسي, أما العقل فيقول: هذا لا يمكن، لأن الخالق يستحيل أن يكون مثل المخلوق، لأنه لو كان مثله لاضطربت الأمور، إذ لا يمكن للإنسان أن يكون مسؤولاً عن نفسه، إذًا فكيف يكون الإله مثل المخلوق؟!نأتي بأمثلة على المتشابه:أ- (وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الزمر: 67] فنحن نستطيع أن نقول مثلاً: في قبضتي منديل، فالحواس عندما تسمع هذا النص ربما يعجبها أن ترى الأرض وتحيط بها يدٌ بخمس أصابعَ تقبض عليها، وهذا يسمى إجراء النص على ظاهره، ولكنه مستحيل لأنه يعني أن مولانا سبحانه ماثَلَ مخلوقاته.ب- المولى قال لموسى عليه الصلاة والسلام في الخبر الصادق: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) [طه: 27] فلو أننا أجرينا هذا النص على ظاهره المعتاد فلا بد أن تتصور الحواسُّ (وليس العقل) عينًا كبيرةً وعليها سيّدُنا موسى، فهل هذا ممكن؟ طبعًا لا.نريد أن نعلم، أنه إذا قرأنا نصًّا محكمًا كقوله تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) فهذا تستطيع الأمة كلها أن تتفاعل معه باتفاق، أما عندما نقرأ النص المتشابه فيأتي مَنْ يُجَسِّمْ ويُشَبِّهْ مولانا بخلقه، وهذا والعياذ بالله من الضلال الكبير، إذًا فماذا نصنع إذا كان الطريق إلى العلم بالله الخبر، والخبر نوعان: محكم ومتشابه؟فإذًا ينبغي أن نفهم أن الطريق إلى المتشابه أحدُ أمرين:1- إما أن نقول: عقلنا عاجز عن أن يحيط بكل شيء من المخلوقين، أفلا يعترف هذا العقل أمام هذا النص المُعجز بالعجز، ويقول: آمنت بالله، وصدَّقت بكلام الله، وأنا أعترف وأفوض الأمر إلى الله؟ وهذا ما فعله كثير من سلفنا رضي الله تعالى عنهم، وهذا يسمى التفويض.2- أو أن نجري مجرى آخر فنقول:العرب يستعملون في لغتهم مدلولات، فما مدلول قوله تعالى: (وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ) في لغة العرب؟نقول: المدلول أن الأرض في سلطان الحق، أي لا يحكمها يوم القيامة أحدٌ، لا مَلِكٌ ولا رئيس ولا أمير ولا أحد ... فهي محكومة حكمًا تامًا من حضرة الله سبحانه وتعالى وبأمره وحده.فعادة العرب إذا قيل: هذه المدينة في قبضة السلطان، أنها في حكمه وفي سلطانه, لا أنه أمسكها بيده.أما في مدلول قوله تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) فنقول:يأتي شخص ويقول: أنا أريد هذا الأمر منك، فيقول له الآخر: على عيني، أو على رأسي، فهل هذا معناه أن يحمله ويضعه على عينه أو على رأسه؟! لا, بل مدلولها في لغة العرب أنه في رعايته وفي عنايته، وليس معناها التشبيه أبدًا.إذًا نلخص فنقول: العلم بالله طريقه الخبر الصادق، والخبر الصادق ينقسم إلى: محكم ومتشابه، والمحكم لا إشكال فيه، أما المتشابه فعندما نقرؤه: إما أن نسير على النهج الذي سار عليه أكثر سلفنا رضي الله تعالى عنهم, حيث اعترفوا بعجز العقل وفوضوا الأمر إلى الله، أو أن نجري على ما تفيده هذه العبارات في لغة العرب, قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران: 7] فالله سبحانه وتعالى حذَّر, ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إِذَا رَأَيْتُمُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَاحْذَرُوهُمْ) وهم الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: (فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ).يقول سيدنا عبد الله بن عمر: لقد عشت برهة من دهري, وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، أي: قبل أن يعرف شيئًا من الدين، فهو لا يعرف كيف يصلي، أو كيف يحج، أو كيف يصوم ... لا يعرف شيئًا من الأحكام أبدًا، وليس عنده من العلم بالإسلام شيء، ولكن يؤتى الإيمان، فهو ينظر في قلبه فيرى تصديقًا ويقينًا وتعلقًا بالله سبحانه وتعالى، يجد أن قلبه منجذب إلى حضرة الله سبحانه.وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، أي: ليس عنده إلا علمٌ بلا إله إلا الله محمَّد رسول الله، وليس عنده علم آخر.يقول ابن عمر رضي الله عنه: وتنزل السورة بعد ذلك على محمَّد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وأوامرها وزواجرها، أي: تأتي الأحكام الشرعية بعد أن تمكّن الإيمان في قلوب الأصحاب.ثم يقول ابن عمر رضي الله عنهما للتابعين: ثم لقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فهو يحفظ القرآن كله، ويعلم الأحكام كلها، فإذا دخلت إلى قلبه ما وجدت من ذلك الإيمان شيئًا، الذي كان في قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: ثم لقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان, فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره وينثره نثر الدقل، أي: كأنه يمسك بالحنطة ويرشها, وكم نجد الآن من يقرأ القرآن ويقرأ ... ولكن عندما تنظر إلى قلبه تجد تعلقه بالأشياء والأشخاص والمصالح والمنافع والمكاسب ... فهل هذا هو الإيمان؟ لا، حقيقة الإيمان لم تكن كذلك.دخل رجل على الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه وقال له: عظني يا إمام, فقال: إن كنت تؤمن أن الله قد تكفَّل برزقك فلماذا اهتمامك؟ فأنت تدّعي أن الإيمان قد عمَّر قلبَك، والله سبحانه وتعالى ما أخبر في القرآن الكريم بآية فيها توثيق شديد كآية الرزق عندما قال: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ, فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات 22-23] وفي الحديث: (لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ, لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ: تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بَطَانًا).أما اليوم فتسأل الإنسان المسلم الذي يقرأ القرآن ويؤمن برسول الله عليه الصلاة والسلام، وتقول له: ما هي مشكلتك الكبرى؟ فيقول: لقمة العيش، سبحان الله، إنه يجتهد في المضمون، نحن لا نقول: اقعد في بيتك، ولا تغدو وتروح، حتى الطيورُ لا تقعد في عشها، بل تذهب وترجع، وفي طريقها يرزقها الله سبحانه وتعالى، وكان صلى الله عليه وسلم في دعائه يقول: (اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا)، هذا ميزان، فعندما يتعمّر القلبُ بالإيمان, يؤمن أن الله سبحانه وتعالى يرزق، وأنه سبحانه يعطي، وأنه يُمدّ, يقول سبحانه: (كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) [الإسراء: 20].من لطائف ما جاء في المثنوي لمولانا جلال الدين الرومي قال: " مرّ سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام وقد أمطرت السماء وهو في طريقه, فأراد أن يدخل إلى كهف حتى يقيه من المطر، فوجد داخل الكهف ابن آوى, فقال له ابن آوى: هذا البيت لي، فلا تقترب منه، فخرج سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام وما أراد أن يؤذيَ هذا الحيوان، ووقف ونظر إلى السماء وقال: ابن آوى له بيت, وابن مريم ألا يكون له بيت؟ الذي هيَّأ بيتًا لابن آوى ألا يهيِّئ بيتًا لابن مريم؟ ثم مشى".فالحق هو الذي تكفل بالعصفور، ألا يتكفل بالإنسان؟إن كان الله قد تكفل بالرزق فاهتمامك لماذا؟ وإن كانت النار حقًّا فلماذا تقع في المعصية؟ إذا كنت تؤمن بأن هناك نارًا، فلماذا تعصي؟ وإن كانت الدنيا فانية فالطمأنينة لماذا؟ وكيف تطمئن؟ أتطمئن إليها وهي فانية زائلة؟ لماذا تطمئن إليها؟هذا ميزان الإيمان، وقبل أن نعرض تفصيلات الخبر لا بد أن نقف في محطات حتى نزن إيماننا، فإذا كانت الدنيا فانية فالطمأنينة لماذا؟ وإذا كان الحساب حقًّا فلماذا الحرص على الجمع؟ وهذه الدنيا في حرامها العذاب، وفي حلالها الحساب، فإذا أكثر المرء من الحرام عوقب، وإذا أكثر من الحلال حوسب: (لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَع: ... وفيها: وعن مَالِهِ) فإذا كان الحساب حقًّا فلماذا الحرص على الجمع؟ (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف: 32], (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58] وإن كان كل شي بقضاء الله وقدره فالخوف لماذا؟سيدنا علي رضي الله تعالى عنه كان يقول شعرًا:




أي يوميـن مـن المـوت أفـرّيــوم لا يقـــدر لا أرهبُــهُ


يـوم لا يُقـدَر أم يوم قُـدِرْ؟ومِـنَ المقدور لا ينجو الحَـذِرْفنرى أن المؤمن بقضاء الله وقدره يعمل ويأخذ بالأسباب, ولكن قلبه مطمئن, لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.الحواس خلقها الله سبحانه وتعالى لتتفاعل مع الكون، لكن هذا القلب خلقه بفطرته لا يرتاح إلى الكون, لا يسكن إذا وجد فيه الكون، هل تجد أن الذي ينشغل قلبه بالأشياء أو بالدنيا وهمومها حين يضع رأسه في المساء على الوسادة أيكون مرتاحًا؟ لا، بل يكون في تفكير دائم، يجمع ويطرح ويضرب ... إذًا فالقلب لم يخلق ليتعامل مع الكون.فأين محل العقيدة إذن؟ أين محل الإيمان؟ إنه القلب.فهذا القلب خلقه الله سبحانه وتعالى لا ليتعامل مع الكون، فهو لا يسكن ولا يطمئن بالكون، فما الذي يجعله مطمئنًا؟ يقول تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28] أي: بالعلم بالله .. بمعرفة الله .. بالتوجه إلى الله .. بالتعلق بالله.إذًا هذا القلب لا يرتاح عندما توجد فيه الأشياء، مشكلتنا أننا ندخل في الصلاة ونقول: الله أكبر, وإذا قلنا: الله أكبر, فهذا يعني إخراج كل صغير وكل حقير من القلب، ولكن نجد أن الإنسان وهو في صلاته يحسب ويجمع ... ونجد أنه في صلاته مشغول بالأشياء, مشغول بالأغيار .. سبحان الله، الأصل أن يكون وهو خارج الصلاة وقلبه مشغول بالله: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [النور: 37]، (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وقال سبحانه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 124] لأن هذا القلب لا يقبل الأكوان أن تكون فيه.هكذا كان حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلّقات قلوبهم، هل كانت تتعلق بالأشياء؟ هل كانت تتعلق بالنساء؟ النفس تتعلق بالنساء وهذا غير ممنوع، أما القلب فلا، لا مانع من أن يكون بين الإنسان وزوجته ودٌّ وسَكَنٌ نفسي: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [الروم: 21] وليس من قلوبكم، فالنفس لا مانع من أن تأكل الطعام الطيب، وأن يكون بينها وبين الزوجة سكن نفسي، أما القلب فإنه لله سبحانه، وعندما هاجر رجل من الأصحاب إلى المدينة وكان يريد من هجرته امرأةً، سُمِّيَ مهاجِرَ أمِّ قيس، لأنه هاجر من أجل امرأة، ولم يهاجر من أجل الله ورسوله، وقال صلى الله عليه وسلم عندما علم بهجرة هذا الرجل: (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ, وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) متفق عليه. وفي الحديث الصحيح أن رجلاً من الأصحاب ذهب يقود سرية أرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يختم صلاته بـ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله, رأينا أمرًا غريبًا، هذا الرجل يختم الصلاة دائمًا بـ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهو يعلم السبب ولكنه يريد أن يعلّم الأصحاب)، قال: سلوه لِمَ يختم صلاته بـ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)؟ فقال: لأنها صفة الرحمن, وأنا أحب أن أقرأ بها، لأن قلبي يحب الرحمن وهو متعلق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَخْبِرُوهُ أَنّ الله يُحِبّهُ)، هكذا كان حال الأصحاب، كان حالَ تعلُّقٍ بالله، فالإيمان قبل ألأحكام، فلا نهتم بالأحكام أكثر من اهتمامنا بالأصل الذي به نقبل عند الله: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ, إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88-89] هذا هو طريق النجاة .. قلبٌ متوجّه إلى الله.مصيبة الأمة الإسلامية هي في القلوب، فلو أن قلوبنا صلحت وتوجهت إلى الله سبحانه وتعالى لانتهت مشكلة العالم الإسلامي، فالمشكلة الآن ليست في عدم معرفة أكثر المسلمين للحلال والحرام، فالحلال بيِّن والحرام بيِّن، وإنما هي فيما هو موجود داخل القلوب، فإذا كانت القلوب متعلقة بالأشياء فكيف يمكن أن يدخل إليها نور الله سبحانه وتعالى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ فَوَالله لأَنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْد, وَالله أَغْيَرُ مِنّي) يعني أن الله سبحانه وتعالى لا يقبل أن يكون في قلب هذا العبد سواه، ثم يوجد فيه نور الله، فنور الله لا يقبل شريكًا, لأنه سبحانه إله واحد لا شريك له، فلا يقبل أن يتوجه القلب إلى سواه.اللهم صل على سيّدنا محمّد عبدك ورسولك النبيّ الأمّيّ وعلى آله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين.
أعلى الصفحة