الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Symposia الندوات
 
المدنية المتحضرة في الدولة والشعب انطلاقا من أصول ابن خلدون
المؤتمر الدولي الرابع عن ابن خلدون حول: دور القيم الروحية في بناء الحضارة وسقوطها نحو الدراساتالخلدو
Istanbul- turkey
23-24/2/2015
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني  
تمهيد:
يمر عالمنا الإسلامي خصوصا وما يسمى بالعالم الثالث عموما بأزمة اختلاط المفهمومات، وفَقْدِ خطة البناء الحضاري الذي تشترك فيه الدول مع الشعوب.
فأكثر البلاد من هذا الصنف يعاني من أنظمة استبدادية` منعزلة عن شعوبها لا تعرف العدل ولا تعير لحقوق البشر شأنا، قد جعلت البلاد المحكومة بالظلم مكان استثمارٍ شخصي أو أسري للحاكم وزمرته، وحولت البشر في سجونهم المفتوحة إلى أشباه عبيد أو أجراء يعملون لصالح الحكام ويتلقون منهم المنّة مع احتمال الحصول على بعض الضروريات. فإذا رأيتَ حكومةً ما شقّت دلجة الليل وخرجت ببعض خيرٍ للناس رأيت على رأسها سيف العسكر المتربص بها القادرِ في أي وقت وبأيِّ حجة أو ذريعةٍ أن يُحرق الأخضر واليابس عبر ما يسمى اليوم (الانقلابات العسكرية) فلا أمل لهذه الشعوب المسكينة في خلاصٍ أوانعتاق، لأنها بين مطرقة الدكتاتور وسندان الجيوش التي تدعمها القوى العالمية الكبرى، وتحتفظ بها صِمامَ أمانٍ تضمن من خلالها السيطرة على المستضعفين.
ومن وراء هذا المشهد القريب تكمن هناك في الغرب قوةٌ عسكرية مستكبرة طاغية تحكم العالم، وتتفق وتتحالف في كل شيء تحقيقا لمصالحها، وتُسخّر ما بنته من المنظمات العالمية لتثبيت طغيانها وشرعنة ألاعيبها، وهي نفسها التي تصنع الحكام كما تصنع السلاح للجيوش المحلية التي تهيمن على تلك الشعوب المستضعفة وتتحكم بمصائرها.
ومع انبهار المغلوب بثقافة الغالب، نسيت الشعوب المسلمة أنها تملك في إسلامها مقومات الحضارة، وتمسك أول الخيط الموصل إلى طريق النهضة، وتستطيع الانتفاع بالهداية الربانية التي تجدها في كتاب ربها وسنة نبيها ومستنبطات علمائها، لتبني دولا قوية الأركان، ومجتمعاتٍ متماسكةَ البنيان، نعم نسيت كل ذلك، وتعلقت بحبل النجاة القديم المهترئ الذي تعلقت به الشعوب الغربية يوم كانت مقهورة مسحوقةً”بالكنيسة المستبدّة التي فرضت نظام الإقطاع واتخذت من الرعية سُخرة وعبيدًا للأشراف والنبلاء، ولم يكن أمام تلك الشعوب المسحوقة إلا أن تخلع حُكم الكنيسة وتنطلق لتبحث عن نظامِ حُكمٍ يَسودها عوضًا عن دكتاتورية الكنيسة, فاختارت نظام (الديمقراطية) ووقعت في مفاوز من أهمها سيطرة الطبقة الرأسمالية على الناس"( ) وما جعلهم يقنعون بأخف الضررين إلا شدة وطأة ذلك الحكم الكنسي.
لكنّ المنبهرين عندنا بالقوة الغالبة، اللاهثين خلف تقليد كل شيء ينتجه التخطيط العولمي، الواهمين أنهم بالفَرْنَجَة أصبحوا أرقى الناس فهمًا وعِلمًا وعبقريةً سرعان ما تقمصوا شخصية ذلك المسحوق الغربي الذي عانى ما عاناه بالأمس، ووضعوا في خيالهم الدكتاتور المعاصر الإقليمي الحاكم بأمر الغرب محلّ تلك الكنيسة القديمة المستبدة بالأمس، فأمطرتهم سحابة التقليد توهما ذهنيا جعلهم يجزمون أن الديمقراطية هي الطريق الأوحد الذي ما رأت العين ولن ترى قبله أو بعده منهجًا يُخرج المستضعفين في العالم الثالث من أزماتهم مع حكامهم المعاصرين المستبدين، ويبني لهم دُولا قويةً ومجتمعاتٍ مستقرةً ونامية.
وصدق رسول الله القائل:”لَتَتّبِعُنّ سَنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ. حَتّىَ لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبَ لاَتّبَعْتُمُوهُمْ”قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ آلْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ؟ قَالَ”فَمَنْ؟"( )

البحث:
نزعم في هذا البحث أن ابن خلدون( ) لم يكن يؤمن ببناء دولة من خلال النظام الذي يتبناه الغرب المعاصر ومن تابعه المعروف بالديمقراطية، فهو لا يرى أن سفلة الناس وعامتهم يستطيعون القيام بوظيفة الدولة القوية، ويصنف هذا الصنف من عامة الناس مع المرتزقة الذين يميلون مع الأقوى والأكثر ثراء وإنفاقا عليهم، ويرى لبناة الدولة في المركز صفاتٍ تمكنهم من بناء الدولة وتطويرها والارتقاء بها.

1- الحاجة الاجتماعية إلى الدولة:
يبين ابن خلدون أن نزعات الإنسان العدوانية، وميله النفساني للظلم، وتفاوته مع أقرانه في الأهواء يجعله في عالم الاجتماع محتاجا إلى وازعٍ قوي قاهرٍ يضبط سلوكه وينظمه ويحمله قهرا على العدل الاجتماعي، كما يحقق له مصالحه العامة مع أبناء جنسه، وليس هذا الوازع إلا الدولةُ، أو السلطانُ بالمصطلح القديم، وفي هذا يقول:
"لا بد من شيىء يدفع عدوان بعض الناس عن بعض. .. فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان و اليدُ القاهرة حتى لا يصل أحدٍ إلى غيره بعدوانٍ، و هذا هو معنى المـُـلك"( )
إذًا فالمجتمعُ من غير دولةٍ قوية هو في نظر ابن خلدون مجتمعٌ متنازعٌ متظالمٌ فوضوي، فإذا وُجدت الدولةُ القويةُ القادرة على إقامة التوازن في الحقوق والواجبات يستقيمُ أمرُ ذلك المجتمع، ويصبحُ قادرا على النماء والارتقاء، وتوجيه طاقاته إلى شؤونه الحضارية، بدلا من توجيهها إلى التناحر والاختصام.

2- الدولة في المذهب الخلدوني تتكون من المركز وليس من القاصية المحيطة:
المتأمل في أبواب المقدمة الخلدونية وفصولها يلاحظ تكريرا لمصطلحات”الكافة”و"السفلة”وما يرادفها من المعاني التي لا يريد من خلالها الذمّ، بل يريدُ التوصيفَ وفق المعايير الاجتماعية المعتادة فليسَ الحكيمُ كالبليد، وليس العالمُ كالجاهل، وليس الفَطِنُ كعريضِ القفا، وليسَ المنفِقُ باليدِ العليا كالعالة المتسكعين الذين ينتظرون الفتات.
ولنقرأ على سبيل المثال عبارته التي سوف نعرضها شرحا وتفصيلا فيما بعد، التي يقول فيها:
"إذا نزل الهرم بالدولة وتقلص ظل الدولة عن القاصية احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم والنظر في حماية بلدهم، احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم والنظر في حماية بلدهم ورجعوا إلى الشورى وتميُّزِ العَلية عن السفلة"( )
فهو لا يورد عبارة (العلية) من باب الاستكبار والاستعلاء، لكنهُ يوردها مشيرا إلى ارتفاع الرتبة في الوصف علما وحكمة وكرما وجودا، ولا ينكَرُ أن القرآن الكريم ذكر التفاضل بسبب الإنفاق، والعلم والإيمان وغير ذلك من الأوصاف التي بها ترتفعُ منزلة الإنسان من أسفل السافلين (بحسب التعبير القرآني) إلى أحسن تقويم، كما أنه يبقى في منزلة السفلة في أسفل السافلين وصفًا عارضا وليس لازما، ويستطيع الخروج من تلك المنزلة بالعمل والعلم والاجتهاد، فالقرآن يساوي بين الناس من حيثُ ذواتهم البشرية ويكرّمهم في هذه الحيثية جميعا، لا كما يفعل المستعبدون للناس، الذين يرفعون الناس وينزلونهم بحسب ألوانهم وأعراقهم وأسرهم وأصولهم الوراثية.
إنه يُفاضل بين الأوصاف، ولا يُفاضلُ بين الذوات.
والعلية ارتفعوا بالوصف علما وكرما وحكمة وفطنة، والسفلة نزلوا بالوصف جهلا وإقتارا وبلادة وتسكّعا، وإعراضا عن طريق المجد.
إن ابن خلدون يلتزم بالمنهج الإسلامي الذي يجمعُ المتميزين وصفا في دائرة الشورى، ويسميهم أهل الحلّ والعقد، ويصف غيرهم بالكافّة أو العامة الذين يعجزون من حيث تحصيلهم وكسبهم عن وظيفة التدبير وسياسة الأمور.
3- لم يكن ابن خلدون وحده المخالف للنظام الديمقراطي أسلوبا لبناء الدولة:
يتوهم كثير من مسلمي اليوم أنّ مجرد التفكير بغير الديمقراطية نظاما للحكم هو سذاجة وسباحة في الترّهات؛ ويظنون أن بناء الدولة المركزية القوية لا يكون في زماننا هذا إلا عبر الديمقراطية ولو كان متشكلا من محيط المجتمع وعامته وجهلته وسفهائه.
وقبل عرض المذهب الخلدوني يحسن بنا أن نتذكر أنّ مفكرين عظاما في التاريخ”كأرسطو في كتابه (السياسة) إذ قدَّمَ تصنيفاً سداسياً لأشكال الحكم ووضع من خلاله الديمقراطية ضمن أشكال الحكم المنحرفة والفاسدة، وكأفلاطون في كتابه الجمهورية وهو الذي صنف الديمقراطية ضمن نظم الحكم الفاسدة، بل إن أرسطو كان يرى أن النظام الديمقراطي ما هو إلا عبارة عن حكم طغياني مُقسَّم على عدة أفراد"( ).
وكثير من المعاصرين من غير المسلمين مثل”كارل ماركس، وماكس فيبر( ) أبدوا شكوكهم فيها واعتبروها (حكم الغوغاء)..."( ).
والذي يثير الاستهجان أن كثيرا من شعوب الغرب التي تتحدث عن الديمقراطية وعن الحريات وعن حقوق الأقليات تحارب بنفسها هذه المبادئ ففي إسبانيا مثلاً يعلن الدستور بكل صراحة أن إسبانيا دولة كاثوليكية.
وفي إيطاليا الكاثوليكية تأتي الكثلكة دائماً قبل الديمقراطية ولا موضع للديمقراطية إذا تعلق الأمر بإقصاء الوصاية الكنسية عن الحياة السياسية.
وبالديمقراطية انتخب الألمان هتلر النازي، وانتخب شعب أمريكا جورج بوش الذي أغرق العالم بالدماء والدمار.

4- مذهب ابن خلدون في بناء الدولة:
لا ينسى ابن خلدون الاستثناء النوراني الفريد، الذي عرفته الأمة في زمن الخلفاء الراشدين الأربعة، فيوردهم ويذكر زهدهم بالحكم، ونزاهة أوصافهم، ويذكر استئناس الناس وقت احتضار النبي صلى الله عليه وسلم باستخلافه لأبي بكر في الصلاة وهي بالنسبة لهم أرفعُ الأعمال الدينية والدنيوية، وارتضاءهم لأبي بكرٍ خليفةً، ثم عهده لعمرَ، وما كان بعده من إمارة عثمانَ وعليّ رضي الله عنهم، ثمّ يبرر لمعاوية رضوخه إلى حكم العصبيةِ الذي أراده قومه من بني أمية وأنّه كانَ يراه أخفَّ الضررين، وكانَ يرى أنّ الضرر الأكبر الذي تحاشاه تفرُّقُ الأمة وتناحرها وسفكُ دمائها.
وقد استشهد كثير من العلماء له بموقف النبي هارون حين تساهل مع بني إسرائيل وقتَ عبادتهم الأصنام خوفَ تفرّقهم، وكيف صبر وانتظر عودة موسى عليه السلام ليردّ قومه إلى الهداية، دون أن يفرق اجتماعهم، ويشتت أمرهم المجموع.
لكنه بعد ذلك الاستثناء يستخرجُ من تاريخ الدول قواعده وأحكامه.
فهو يقسم حياة الدولة السالفة إلى نشأة وتطور وإدراك، قبل أن يأتيها الانحطاط والسقوط( )، ويرى أن نشوء الدولة الجديدة قد يحصل بأحد طريقين:
أ‌- نشوء الدولة من داخل المجتمع.
ب‌- نشوء الدولة من خارج المجتمع.
ولا بد من التفصيل في الطريقين:
أ‌- نشوء الدولة من داخل المجتمع:
يرصد ابن خلدون تفكك الدول، وضعفها وعجزَها في مرحلةٍ ما من حكمها عن ضبطِ حدودها والعنايةِ برعاياها لا سيما في المدن والبلدات البعيدة عن عاصمة البلاد، وهو ما أطلق عليه اسم (هرم الدولة وشيخوختها) وهو يكون (كما يذكر ابن خلدون) عند ضعف الشوكة (الجند) ونقص المال، ويكون سببُ ذلك الهرمِ غالبا الاستبدادُ المزمن والترفُ الفاحش والانشغال بسبب ذلك عن شؤون الناس، وتنشأ عند حصول هذا الهرم دولة أو دول جديدة.
أما احتمالات التجدد الداخلي التي يذكرها ابن خلدون فهي:
1ً- استشعار أعيان البلاد للخطر ومبادرتهم الحلول:
وفي هذا نذكّر بعبارة ابن خلدون:
“إذا نزل الهرم بالدولة وتقلص ظل الدولة عن القاصية احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم والنظر في حماية بلدهم”( )
ثم إنه يبين ما قصده من عبارته: / أهل الأمصار/ أنهم علية الناس وأهل حلّهم وعقدهم من الوجهاء وأصحاب النظر والعلم والمال فيقول:
"احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم والنظر في حماية بلدهم ورجعوا إلى الشورى وتميُّزِ العَلية عن السفلة"( )
وهو هنا يقترب من منظومة الفقه الإسلامي التي تدعو إلى انصياع عامة الناس إلى ما يصدرُ عن أهل الحلّ والعقد، وهو عينُ نظام الشورى في الإسلام، لكنه يدركُ أنه يكتب القواعد العامة التي تسير البشرية عليها، وأنّ الناس في الأزمان المتفرقة ليسوا على درجة من النقاء والصلاح والتقوى وطهارة النفس كتلك الحالة التي كان عليها الناس في صدر الإسلام، لذلك يصف ابن خلدون نوازع أولئك الوجهاء المجتمعين ورغبات نفوسهم، وكيف يتسلل إليهم الطمع الخاص في الملك، مع أنهم بالأصل لم يجتمعوا إلا للمصلحة العامة.
وفي هذا يقول:
“والنفوس متطاولة إلى الرياسة...فتطمح المشيخة إلى الاستبداد (لخلاء الجو من الدولة القاهرة)”( )
هنا يتحول من جاء لمصلحة البلاد إلى طامعٍ في مُلكها...
بعبارة أخرى يتطلع أصحاب الرياسة إلى الملك...
والمصطلحان مختلفان عند ابن خلدون، وهو في هذا يقول:
“الرئاسة سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في أحكامه، أما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر"
ومن المفيد هنا أن نضيف مصطلحا ثالثا يذكره ابن خلدون وهو (الخلافة) ويميزه عن (الملك) فالملك يحمل الناس في مصالحهم الدنيوية، أما الخلافة فهي حمل الناس على في مصالحهم الأخروية والدنيوية، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به."( )
ثم يتحول المتعاونون إلى متصارعين متنازعين، ويعبر عن هذا بقوله:
"وينازع كلٌّ صاحبه"
ولا بدّ للنزاع من أدوات، وأدواته: الأتباعُ الموالون، والأوغادُ المستأجَرون، وصاحبُ النزاع يُنفق على أتباعه ومرتزقته، يقول صاحب المقدمة:
“ويستوصلون بالأتباع ويبذلون ما في أيديهم للأوغاد”( ).
ويغلب في النتيجة أحدُهم، ليُكوّن دولته الجديدة على أطلال الدولة السالفة الساقطة، مستعينا بزمرته ومن والاه، ويذعن له الأضعف من الأعيان، وتنقاد لسلطانه وحكمه عامة الناس.
يقول ابن خلدون:
"وربما يزدحمون على ذلك الملك ويتقارعون عليه، ويتنازعون في الاستئثار به، ويغلب منهم من يكون له فضلُ قوة على صاحبه، وينتزع ما في يده”( )
فلا تتقسم الدولة في هذه الحالة، بل تزول الدولة الحاكمة الهرمة، وترثها من الداخل دولةٌ جديدةٌ تتمتع بالقوة والحيوية.
2ً- ظهور الدويلات على أنقاض الدولة الهرمة:
وهي حالة ثانية، يتحولُ فيها ولاة الأمصار في الدولة القديمة إلى حكّامٍ، ويستقلّون بما كانوا يتولونه بأمر الدولة من البلاد، يقول ابن خلدون:
“يستبد ولاة الأعمال في الدولة بالقاصية عندما يتقلص ظلها عنهم، فتكون لكل واحد منهم دولة يستجدها لقومه... ويستفحل لهم الملك بالتدريج"( )
ويستشهد على ما ذكره بشواهد منها ما حصل من الانقسامات في دولة الأندلس عند هرمها، فيقول:
“وقد وقع هذا بالدولة الأموية بالأندلس وافترق ملكها في الطوائف الذين كانوا ولاتها في الأعمال، وانقسمت دولاً وملوكاً، وهذا النوع لا يكون بينهم وبين الدولة المستقرة حرب لأنهم مستقرون في رئاستهم"( )
ويبين أنّ هذا الانقسام يكون سلميا من غير حروب، فيقول:
"تحصل ولاية الأطراف إذا تقلص ظل الدولة عنهم وانحسر تيارها، وهؤلاء لا يقع منهم مطالبة الدولة في الأكثر كما قدمناه، لأن قصاراهم القنوع بما في أيديهم"( )

فيكون نشوء الدولة من داخلها على ما تقدم إما:
- بتغلّب صاحبِ قوة وجنودٍ وأموال، فيزيل الهرم، ويعيد للمجتمع حيويته من خلال دولته الفتية.
- وإما باستحواذ مجموعة من الأقوياء على أجزاءٍ معينة من الدولة القديمة، فتنشأ دويلات صغيرة بدل الدولة الهرمة، لكنها تكون نسبيا فتية وقوية، ولا ترقى إلى ما كانت عليه الدولة القديمة من قوة في شبابها قبل أن يعرض لها الهرم.

ب‌- نشوء الدولة بسبب وافد من خارج المجتمع:
وهذا النشوءُ الجديد يكون أيضا على أحد شكلين:
- المعاجلة.
- المناجزة والمطاولة.
والمقصود من المعاجلة سرعة الانتقالِ، فتقضي الجماعة القوية الفتية بسرعة على الدولة الهرمة المتـرهلة، وتعيد بناء الدولة من جديد، ماحيةً بذلكَ آثار إهمالِ تلك السالفة، وانشغالها بالترف عن الناس.
والمقصود بالمناجزة والمطاولة طول مدةِ القتال مع عجز المناجزين الجدُد عن الإزاحة العاجلة، بسبب ما تملكه الدولة السالفة من الأموال، وما تميل إليه نفوس العامة من حُبّ المعتادِ وإنْ فسد، وكراهيةِ المجهول وإن صَلَح.
1ً- نشوء الدولة الجديدة بالمعاجلة:
لا يرى ابن خلدون أيَّ غضاضة في قدومِ وافدٍ مسلمٍ قوي من خارجِ المجتمع ليزيحَ دولته الهرمة الفاسدة الضعيفة المترهّلة، فهو لا يتحدّث عن دولة أجنبية محتلة، ولا جماعة غريبة عن دينِ المجتمعِ أوأصوله، قد لا يكون ذلك الوافد مماثلا في القومية، وقد لا يكون مماثلا في اللون أو العرق، لكنّه يحمل الهوية الثقافية والدينية نفسها، ويرغبُ في مصلحة له وللمجتمع الذي أراد حكمه، ولنقرأ قول ابن خلدون:
“فإن أدركت الدولةَ الهرمةَ أهلُ العصبيات (ولم يكن لها ممانع من أولياء الدولة) استولت عليها وانتزعت الملك من يدها وصار الملك لها”( )
وابن خلدون يرى أنّ العصبية الوافدة تكون عادة ذات بداوة وخشونة.
وهنا لا بدّ من الوقوف عند مفهومي (العصبية) و (البداوة الخشنة)
وقد سأل الباحث أحمد برقاوي السؤال الآتي:
“هل بإمكان مفهوم العصبية الخلدوني أن يقوم بوظيفة معرفية في عالمنا الاجتماعي الراهن؟"( )
وأجاب على سؤاله بقوله:
“نعم.. يكون بإغناء مفهوم العصبية وإعطائه دلالات ومعانٍ جديدة بحيث يغدو قادراً على أن يتحول إلى أداة معرفية معاصرة."
أقول: أما نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ }‏الأحزاب‏:‏6
وتذكر أخبار السيرة أنّ المسلمين حينما رجعوا من بدر منتصرين مر مصعب بن عمير برجل من الأنصار وهو يأسر آخاه أبا عزيز، فقال له: شدّ وثاقه فإن أمّه ذات مال، فقال أخوه: أهذه وصاتك بي وأنت أخي؟ فقال مصعب: إن هذا الأنصاري أخي دونك.
فإننا نجد في أصولنا مفهوما معنويا للترابط أقوى من رابطة النسب الحسية.
فأصل العصبِ في اللغة القبض والضم والربطُ والشدّ والإحاطة، وقد جاء الإسلام بما هو أقوى من عصبية الجاهلية، فارتبط أهل المعاني واجتمعوا بما هو أشدّ من أسباب ارتباط أهل النسب.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"( )
ولعلنا نستفيد من هذه الدلالة في توصية البحث لما يطلبه واقعنا المعاصر.
أما علة الخشونة في البداوة فإنها أيضا صفة من صفات أهل الحق في المنظور الإيماني، وهذه العلةُ أوردها القرآن في موضعٍ تكون فيه الخشونة سببًا أقوى لتكوين الدولة.
قال تعالى:
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ }الفتح: 29
فالخشونة والشدة لإحقاق الحق محمودة، وهي في غير محلها مذمومة.
وقد وقف الخليفة الراشدي أبو بكر يخطب في الناس فقال:
"الضَّعيف فيكُم قوِيّ عندي حتى أُريحَ عليه حقَّه (أي أرده إليه) والقويّ فيكم ضعيفٌ عندي حتَّى آخذ الحقَّ منه..."( )
وفيها تظهر قوة الحاكم في الحق وخشونته على الظالم.
ولعل هذه الدلالة المستوحاة من خشونة البداوة عند ابن خلدون نوردها أيضا في توصيات البحث.
ونعود من الاستطراد إلى موضوع البحث في ألفاظ ابن خلدون، وهو يتحدث عن”صاحب شوكة وعصبية كبيراً في قومه قد استفحل أمره فيسمو بهم إلى الملك، وقد حدثوا به أنفسهم بما حصل لهم من الاعتزاز على الدولة المستقرة، وما نزل بها من الهرم."( )
وهكذا ينشأ الجيل الأول من الدولة الفتية، التي يتصف رجالها بالخشونة والبسالة والقوة فيتقاد لهم الناس ويحصل لهم بها الأمن والاستقرار، ويحسب المعتدي والظالم لها ألف حساب قبل أن يفكر في السعي لإهلاك الحرث والنسل.
وهي الحالة الأولى التي تنشأ فيها الدولة بالمعاجلة.
2ً - نشوء الدولة الجديدة بالمناجزة والمطاولة:
وتكون هذه الحالة حين”يخرج على الدولة خارج ممن يجاورها بدعوة يحمل الناس عليها”
فيعلنون للناس مبادءهم ويبينون لهم أنهم الأقوى والأنفع لهم، وأن الدولة الهرمة التي تحكمهم قد وصلت إلى غاية الفساد والضعف والعجز عن رعايتهم، وانشغلت بملذاتها عن شؤون الناس، فتجمع الأنصار والموالين، وتناجز الدولة الهرمة وتقاتلها.
يقول ابن خلدون:
“الدعاة والخوارج على الدولة، وهؤلاء لا بد لهم من المطالبة... فيقع بينهم وبين الدولة المستقرة حروب سجال تتكرر وتتصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظفر بالمطلوب. ولا يحصل لهم في الغالب ظفر بالمناجزة.... حتى يأذن الله بزوال الدولة المستقرة وفناء عمرها، ووفور الخلل في جميع جهاتها، ويتضح، لأهل الدولة المستجدة مع الأيام ما كان يخفى منها، من هرمها وتلاشيها... وتنتهي المطاولة إلى حدها، ويقع الاستيلاء آخراً بالمعاجلة."( )
وهو أمر قد يطول ويستنفد الطاقات ويخرّب البلاد، ويستهلك العباد، لكنه ينتج في النهاية تجددا وإعادة للبناء.

5- تطوير الدولة وإدراكها:
إذا استقر للدولة الجديدة الحكم، واستتب لها الأمر، فإنها (في منظور ابن خلدون) غالبا تختار عاصمة جديدةً تتميز في موقعها وبيئتها ومائها وخيراتها ( )
ثم إن ابن خلدون يؤمن بأن الحضارة تنمو بوجود الموارد البشرية ويرى أنه لا ثروة إلا بالرجال فنمو السكان يعطي الموارد الطبيعية دورها الحضاري( )
إنه يرى القوة في تكثير النسل لا في تحديده، لأن الاهتمام بالإنسان المنتج يعني تطويرا لثروة الأرض، وبناء لحضارة المجتمع.
وهو يرى وجوب تطبيق المبادئ العلمية على العمل بتخصيص الأعمال، لأن انتفاء التنظيم في توزيع التخصصات العملية والمهنية والحرفية يجعل الإنتاج ضحلا، أما توزيع الدولة للأعمال وتنظيمها فإنه يزيد الإنتاجية ويزيد بالتالي الثروة الحضارية.( )
وبعد هذا فإن الدولة تزداد إدراكا حين تظهر صنعة تعليم العلم بين الصنائع وينتشر الاهتمام بالطب والرياضيات والفقه والكيمياء، فينتقل الإنسان عند انتفاء فقره وفاقته من مجرد العمل الحسي إلى العمل الذهني، ويكمل تطور الدولة بإنشاء الجيوش القوية التي تحرس تلك الحضارة، وتسهر على حماية بلادها.( )

6- كيف نستفيد في عصرنا من نظرية ابن خلدون في بناء الدولة:
الذي أراه هو ضرورة التنادي للاجتماع الإسلامي على المبادئ الآتية:
1- السعي إلى استقلالية ما عن القوى العالمية المستكبرة التي أنهكت عالمنا الإسلامي من خلال إرغامه على التبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية.
2- الاعتماد على الموارد الطبيعية في البلاد المسلمة، واستثمارها ذاتيا من خلال الموارد البشرية المسلمة أيضا.
3- إعادة ثقافة الشورى المستندة إلى اجتماع أهل الحل والعقد وهم الذين تجتمع فيهم الصفات الآتية:
• أهل الاختصاصات المتعددة دينيا ودنيويا.
• المشهود لهم بالتقوى والصلاح.
• المؤمنون بالعمل الجماعي، بعيدا عن الشخصنة والمحسوبيات والأنانيات.
• الذين تتوفر فيهم القوة والشجاعة والبسالة.
• الذين يتطلعون إلى عودة الدولة المسلمة القوية دون أن تكون لهم في حكمها رغباتٌ نفسانية تزيح إخلاصهم وتلقيهم في صراعات النفوس.
• الذين يقبلون الانصهار في شكل الجماعة المترابطة بروابط الإيمان، وليس في نماذج الأحزاب السياسية المتنافسة على المكاسب.
• الذين يقبلون المسلمين كافّة، من غير تكفيرٍ أو إلغاء، طالما أنهم يؤمنون بالله ورسوله، وكتابه، ويتوجهون بالصلاة إلى قبلة المسلمين.
• الذين يقيمون حرمة لدماء الناس وأعراضهم وأموالهم، مهما اختلفت أديانهم ومذاهبهم، طالما أنهم لا يقاتلون المسلمين، ولا يخرجونهم من ديارهم.
4- تحويل ما تقدم إلى مشروع عملي ينتج بقوته دولة مسلمة قوية لا تعتدي على أحد ولا تقبل عدوان أحد.

وإنني أظن أن ما ذكرته في هذا البند السادس ما هو إلا استلهام من مبادئ ابن خلدون في بناء الدولة وتطوير المجتمع، ولعلها تكون إضافة ينتفع بها المخلصون، وأختم بالحديث النبوي الشريف:
"تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"( )
هذا وبالله التوفيق، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
أعلى الصفحة