الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Books كتب
 
شرح منظومة (خلاصة طريق الصفاء)
الفقير إليه تعالى: محمود أبو الهدى بدر الدين الحسيني
23-4-2012
 
إذا أردتَ سيرَ أهل الصدقِ إلى سنا معرفةٍ للحقِّ
الإرادة أول الطريق، وهي قوة انبعاث القلب إلى وجهة ما وشدة رغبته فيها فإذا كانت تلك الوجهةُ السيرَ في طريق العلم الرباني، والعمل النبوي، إلى معرفة الحقّ شهودا وذوقا، مع إلغاء الإرادات المشبوهة الصارفة عن حقيقة الصدق والإخلاص لله تعالى، فإنها عندئذ تكون الإرادةَ التي بدأ بها أهلُ الصدق طريقهم إلى معارج معرفة الحق وعليائها.
فإن وجدتَ قلبَك مريدا لله تعالى، مشتاقا إلى معرفته، راغبا في الانجذاب إلى حضرته، مع المحافظة على آدابِ شريعته، والانضباط بأحكامِ ربوبيته التي تمثلت في حياة المصطفى عليه الصلاة والسلام، فعليك بما سنبينه في الآتي:
فاطلب من الله صفاء النيةْ وأدب الشهود في العبديةْ
فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، والحق تعالى هو مقلب القلوب، يقلبها بين التوجه للأنوار، والانقلاب إلى طين الأكدار، ولكنه تعالى جعل للانقلاب نحو الجهتين أسبابا.
فالأعمال النورانية تعين على الانقلاب النوراني، والأعمال الظلمانية تدفع إلى الانقلاب الظلماني.
ومتابعة القلب للروح المشتاقة إلى ربها تعين على الانقلاب النوراني، ومتابعة القلب للنفس الأمارة تعين على الانقلاب الظلماني.
ولذلك كان من الواجب على السالك في مبتداه أن ينطرح في عتبات الله تعالى ذليلا، طالبا أن يعينه على تصفية نيته، وتثبيت إرادته في الوجهة النورانية.
كما أنه من الواجب عليه أيضا أن يلح على مولاه أنه إذا سهّل له الانجذاب الروحاني الشهودي أن يرزقه معه أدب العبدية في ذلك الشهود، فتكون جوارحه في الموافقات المستقيمة على نهج المصطفى الكريم، في الوقت الذي تستغرقه الروح في ذوق الأنس بالحضرة العلية البهية.
فكم من سالك وُفِّق إلى الاستقامة وحجب عن معاناة الذوق الشهودي.
وكم من سالكٍ غرقَ في انجذابه ففقد في غرقه طريقة المتمكنين من الأنبياء والصديقين.
فالعلم بالمقصود عند المبتدا بابٌ إلى مقام أصحاب الهدى
وما تقدم يؤكد ضرورة علم السالك من أول الطريق بمقصوده فيه، وهو معرفة الذوق والشهود، مع الأدب والوقوف على الحدود.
وما تخبط من تخبط، أو رجع من رجع، إلا من ضَعْفِ علمه بالمقصود في البداية، أو طروء نزعات النفس عليه خلال السير، فيغفل عن المقصود بإعجابه برأيه، أو توهمه أنه قد بلغ مبلغ الرجال، ولو بلغ مبلغ الرجال لثبت في الموافقات كما ثبت أقرب الأصحاب إلى المصطفى سيدنا أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
ومقام أصحاب الهدى هو مقام التمكين في الحقيقة والشريعة، وفيه كان الأنبياء والأولياء وأساتيذ الرجال.
قال تعالى: ( أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده ).
وبعد العلم بالمقصود وصحة نيته وقوة إرادته ينبغي على السالك البدء العملي بالسير، ولا يكون سيرٌ علمي أو عملي أو خلقي أو ذوقي عند فحول الرجال من غير أستاذٍ دليل، وفي العادة البشرية يُنكر على من يسير في طريقٍ من مدينة إلى مدينة أو بلد إلى بلد من غير دليل يدله، وكذلك في العلوم الكونية كالطب والهندسة وغيرهما، فلا يمنح الدارس شهادة فيها من غير أساتذة، والعلم مع الأستاذ عموما أكمل وأتم، فكيف يسير الإنسان في طريقٍ محفوفةٍ بمخاطر النفس والشيطان، ويترفّع سره عن مخالطة الخلق والأكوان، من غير دليلٍ يُعينه ويُرشده؟
وطلبُ الدليل العارف بالله، البصير بالآفات، المُعرِض عن فتن الأرضين والسماوات، مسألةٌ صعبة على الغرّ المبتدئ، بل قد تكون صعبة على متعلّم جميع العلوم الظاهرة، لأن الدلالة هي من جنسٍ آخر، منتهاها معرفة الله، ومبتغاها مرضاته ومحبته.
وقد دلّ المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أصحابه بأقواله وأفعاله وأحواله.
فحُفظت الأقوال الشريفة في علوم الحديث، ونقلت أفعاله الكريمة في كتب الفقه، وتعمّرت القلوب بأحواله الباهرة، وأنواره الساطعة.
فتوارث المحدثون الأقوال، وتوارث الفقهاء الأفعال، وتوارث أصحاب مقام الإحسان من أكابر الرجال أخلاقه وأحواله صلى الله عليه وسلم.
وأكرم الله تعالى بعض الأكابر فجمعوا التخصص بالحديث والفقه والتصوف.
ولما كان الادعاء لمقام الدلالة كثير الحصول، احتاج السالك إلى أمور ثلاثة تعينه في التعرف على الأستاذ الدليل في زمانه ومكانه.
1- إعانة الله تعالى وتوفيقه لهذا السالك، حتى يوقع في قلبه قوة الثقة واليقين بالدليل الصادق الذي لا يكون مجرد مدع كاذب، وإلى هذا أشار النظم في العبارة: واطلب من الله دليلا عارفا.
2- شهادة أستاذٍ كبيرٍ مشهودٍ له بالتربية والمعرفة والذوق، يشهدُ لهذا المدعي أنه أهلٌ للدلالة، والتربية والتعريف.
3- البراهينُ العملية على أنه دليل.

قال العلامة أحمد زروق رحمة الله تعالى عليه:
شروط الشيخ الذي يلقي المريد إليه نفسه خمسة:
1) ذوق صريح .
2) علم صحيح.
3) همة عالية.
4) حالة مرضية.
5) بصيرة نافذة .
وأضيف إلى ما ذكره العلامة زروق أن تظهر نتائج تربيته في إخوانه، فقد قيل: من ثمارهم تعرفونهم.
فإذا ظهرت معرفة الذوق والشهود في إخوانه، مع الأدب والخلق والتقوى، فهو الدليل حقا.وجاء في النظم: فربما صحبت علجا صارفا.
والعلج: الرجل الشديد الغليظ الجاهل بالتربية، فإذا أضيف إلى غلظته صرفُه السالك عن معرفة الله تعالى الشهودية إلى مجرد الاشتغال بالعمل مع الجهل بالله، أو التوجه (وهو الأفظعُ) إلى الشهرة أو السمعة أو الكرامة وتدافع الجماعات وتحزّب الأشخاص، ومثل هذا الدليل سُمٌّ زعاف، يصرفُ السالك عن طريق الله، ويوقعه فيما يفرّق المسلمين، أو القدح في أعراضهم ودينهم، نعوذ بالله من هذا ونسأله التثبيت على منهج :
" ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين"
وما تقدم هو كالشرح لما جاء في النظم من عبارة:
واطلب من الله دليلا عارفا فربما صحبت عِلجًا صارفا
ما كُلُّ من قال أنا الدليلُ يُشفى به الطالبُ والعليلُ
ثم أتى بأهم الأوصاف المطلوبة في العارف الدليل فقال:
فالعارفُ: الذي يدلُّ نُطْقُهُ وفي جمالِ الحقِّ يبدو عِشقُهُ
يدلُّ مَنْ يَصحبهُ على الأحدْ ومِنْ تجلّيه يُؤَمَّلُ المددْ
وهو من معنى: لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله.
فالدليل العارف يدلّ بنطقه على الله ويُرشد السالك إلى ما ينفعه في سيره.
ويكون باطنه مستغرقا في محبة جمال الحق، والهيبة في جلاله وكماله.
ولما كان السير إلى الله ينتهي والسير في الله لا ينتهي ...
ولما كان الانجذابُ إلى أحدية الحق نهايةَ السير إليه وأوّلَ السير فيه، أشار إلى هذا المعنى في النظم بقوله: يدل من يصحبه على الأحد.
فالاستغراق في تجلي الأحد هو أول الطريق الشهودي المعرفي.
فإذا ارتقى السالك في المعرفة شاهد إمداد الواحد المطلق بتجلي قدرته لكل شيء.
وبعد توفيق الله تعالى للسالك ووصوله إلى العارف الدليل، بعد تحديد القصد، وصدق التوجه إلى الله تعالى، يبدأ الجزء التطهيري في السلوك، وأشار إليه بقوله:
وتُرتجى في السالكِ الطهارةْ عن الذنوب إذ بها البشارةْ
فكما لا يدخل الجُنُبُ بيوت الله، ولا يدخلُ المُحدِثُ في الصلاة، كذلك لا يدخل إلى طريق الله، ولا يتحرك خطوة في صراط السلوك إلى المعرفة مُلطّخٌ بنجاسات المخالفات الشرعية، فالتقوى عن المحظورات رايةُ الولاية، وبشارةُ القبول.
قال تعالى: " ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "
فإذا وجد السالك في نفسه علامات التوبة، وطمأنينة النفس إلى طاعة الله، وكراهيتها لمعصيته، فليستبشر بقبول الله تعالى له.
فكيف يَدخلُ المعاني نَجِسُ وحَيُّ إشراق البها مقدَّسُ
فدخول الملكوت الروحاني لا يكون بوجود المخالفات، فكيف يحصل دخول المعارف والأذواق؟
فحضرة الله تعالى مقدسة عن الأدناس.
والنجاسات نوعان: ظاهرة وباطنة، فذنوب الجوارح ظاهرة، وآثام القلوب والنفوس باطنة.
قال تعالى: " وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ "
فالكذب والنميمة والسرقة والفجور أمثلة على النجاسة الظاهرة.
والحقد والحسد والنفاق والرياء أمثلة على النجاسة الباطنة.
وبخروج الإنسان عن نفسه الأمارة، وتجاوزه لنفسه اللوامة والملهمة إلى النفس المطمئنة، يتطهر.
وبانقلاب القلب عن توجهه إلى الشهوات والأكدار والأغيار إلى التوجه إلى الأنوار واللطائف والأسرار يتطهر.
ويعين على الطهارة تركه لقرناء السوء، وصحبته لإخوة الصلاح.
كما يعينه على الطهارة تركه لأمكنة المعاصي والفسوق، والتزامه أمكنة الطاعة والأنوار.
ويعينه أيضا مواظبته على اغتنام خصوصيات الأوقات الزمانية لاسيما بالإقبال على الله تعالى وذكره بكرة وأصيلا، وحرص هذا السالك على أداء الأوراد في تلك الخصوصيات الزمانية.
وبهذه الطهارة الظاهرة والباطنة تحصل التخلية ويتهيأ السالك للتحلية والمعرفة.
ثم قال:
ويُلزَمُ السالكُ بالأورادِ والذكر والصحبة باسترشادِ
وعبارة الإلزام هنا تقتضي العهد على المواظبة ضمن المستطاع.
فالاضطرار يرفعُ الإلزام.
والمقصود بالأوراد:
1- جميع الواجبات المفروضة شرعا على المكلفين.
2- ما تأكّد من سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام القولية والفعلية.
3- ذكر الله تعالى لاسيما الاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والهيللة.
4- السور المرتبطة بالمناسبات الزمانية والمكانية كسورة الواقعة بعد المغرب، وسورة الإخلاص والمعوذتين، وفاتحة الكتاب.
5- يندرج في مفهوم الأوراد كُلُّ تكليفٍ شرعي، فبر الوالدين ورد، وخدمة الناس ورد، والتعليم ورد، والجهاد ورد، والإنفاق المالي ورد، والكلمة الطيبة التي تدخل السرور على القلوب ورد، ورعاية الأولاد ورد، ومؤانسة الأسرة ورد، وتعمير الأرض بالمدنية الإنسانية ورد ... وهكذا، كلٌّ يضيف وردا يناسب إقامة الله تعالى له في الزمان والمكان والأشخاص.
هذا في مفهوم الأوراد.
أما الذكر بالمعنى الأخصّ فهو تكرير الألفاظ النبوية المسنونة كالحسبلة والحوقلة والاستغفار والهيللة ... والمراد منها إدامة تذكّر السالك لمولاه، وإزاحة الغفلة عن قلبه.
أما الصحبة فيستفاد منها الانتفاع بالحال والاسترشاد بالعلوم الضرورية في الأوجب والأولى.
فلا ينبغي أن يتلقى السالك العلم عن أصحاب الحال الظلماني، لأن أحوالهم تفسد صفاء السلوك، فينتقل إليه التكبر والعجب وأمثالهما، بل ينبغي أن يتلقى العلم عن أهل الطاعة والأدب والأخلاق.
وأشار في النظم إلى أوجب العلوم:
فالعلمُ بالفقه وبالتوحيدِ وصْفُ اللبيب الحاذق الرشيدِ
فالفقه المقصود هنا ما لا يستغنى عنه من العلم بالحلال والحرام، وأحكام العبادات، وما يلزمه من المعاملات.
والمراد من العلم بالتوحيد معرفة العقائد الإيمانية خاصة ما يجب لمولانا جل وعز وما يجوز وما يستحيل، وكذا ما يجب للرسل وما يجوز وما يستحيل، وما أمرنا الله تعالى بالتصديق به من السمعيات.
وقد ثبت عندنا بالتواتر أن القرآن العزيز جاء به رسول الله المؤيد بالمعجزة، التي لم يقدر أحد على معارضتها أو الإتيان بمثلها، وأخبر أنه كلام الله تعالى، وهذا القرآن العزيز هو الدليل المعول عليه قبل العقل {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:42] مع أن العقل يوافقه في أدلته.
فقد "نزّه سبحانه نفسه أن يشبهه شيء من المخلوقات أو يشبه شيئًا بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11] و{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الصافات:180]. وأثبت رؤيته في الدار الآخرة بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:22-23] و{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، ونفى الإحاطة بدركه بقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}[الأنعام:103] وأثبت كونه قادرًا بقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[المائدة:120] وأثبت كونه عالمًا بقوله: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق:12] وأثبت كونه مريدًا بقوله: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}[البروج:16] وأثبت كونه سميعًا بقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ}[المجادلة:1] وأثبت كونه بصيرًا بقوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}[العلق:14]. وأثبت كونه متكلمًا بقوله: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء:164] وأثبت كونه حيًا بقوله: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[البقرة:255].
وأثبت إرسال الرسل بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِي}[النحل:43] وأثبت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ}[الفتح:29] وأثبت أنه آخر الأنبياء بقوله:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}[الأحزاب:40] وأثبت أن كل ما سواه خلق له بقوله:{اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الزمر:62]... وأثبت حشر الأجساد بقوله:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}[طه:55].
وأثبت الحشر والنشر والقضاء والقدر والجنة والنار والقبر والميزان والحوض والصراط والحساب والصحف، بكتابه تعالى وسنة نبيه الصحيحة.
فإذا تعلم السالك الدليل العقلي مع ذلك يكون الحاذق الفطن اللبيب، فقد يعرض له من يسأله أو يورد له شبهة في عقيدته فيكون متسلحا بالبراهين.
وبالتزامِ مجلس الجماعةْ تمكينُ أخلاقٍ وحبُّ الطاعةْ
فأشار إلى أثر الصحبة والتآخي والترابط في نشر الأحوال السنية النورانية.


وفي الحديث المتفق عليه:
"إِنّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصّالِحِ وَالْجَلِيسِ السّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ. فَحَامِلُ الْمِسْكِ، إِمّا أَنْ يُحْذِيَكَ (أي يعطيك) وَإِمّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحاً طَيّبَةً. وَنَافِخُ الْكِيرِ، إِمّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمّا أَنْ تَجِدَ رِيحاً خَبِيثَةً.
فمثل النبي صلى الله عليه وسلم الجليس الصالح بحامل المسك، والجليس السوء بنافخ الكير، ومنه يؤخذ فضل مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب، كما يستفاد النهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع ومن يكثر فجوره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة.
فإذا رأيت السالك مقبلا على مجالس إخوانه متسابقا إلى حضورها في أول وقتها، محبا لأنسها، مشتاقا لأنوارها وأسرارها، فاعلم أنه سائرٌ في طريق الترقي خلُقا وسلوكا وحالا، وإذا رأيته متأففا، متثاقلا، كالمرغم على حضورها خجلا من إخوانه ومجاملة لهم فاعلم أنه متقهقرٌ خُلُقا وسلوكا وحالا.
وعندها يلاحظ الدليلُ المرشدُ علاماتِ إقبال هذا السالك على طريق القرب، ويعلمُ شوقه إلى معرفة ربه، وحرصَه على الارتقاء في علمه وعمله، ورغبته الصادقة في ذوق معارف الأكابر، وهو ما أشار في النظم إليه بقوله:
فان تأكَّد التزامُ السالكِ وشوقُه إلى الجليل المالكِ
يُؤذَنُ للذاكر باسم اللهِ يمحو به الأغيارَ والملاهي
فظهور علامات الإشراق، وبشارات الأذواق، تدفعُ المرشد إلى الإذن للسالك بالسير في أول خطوة عملية في الطريق إلى الذوق، وهي ذكر لفظ الجلالة الله بالمدّ 6-8 حركات من حركات المد، دون أن يكون في ذكره مرتفع الصوت أو منخفضه، ويَذكر السالك الاسم الأعظم بمدة معينة يأذن له بها مرشده، ويكون وقتها على طهارة مستقبل القبلة، واضعا رسم حروف الاسم أمامه على الشكل المبين.
والمقصود من ذكر لفظ الاسم الأعظم الانتقال من عالم المحسوسات إلى عالم المعاني.
فإن السالك يبدأ ذكره فاتحا عينيه مركّزا في لفظ الجلالة، فإذا تمكن رسم الحروف من مخيلته المعنوية، يسهلُ عليه عندها إغماض عينيه وتذكر رسم اللفظ الكريم، وكلما اشتد تعلقه بحروف الاسم يرى أن هذه الكلمة الشريفة العليا تمحو ما كان في مخيلته من الصور الكونية الكثيرة الشاغلة له ليلا ونهارا.
وكما ابتلعت عصا موسى أوهام السحرة وتخيلاتهم يبتلع رسم لفظ الجلالة كل التخيلات، ويمحو كل الصور فلا يبقى في عالم الشهود المعنوي إلا هذا الاسم الكريم.
وهو ما أشار إليه في النظم بقوله:
حتى يكون الاسمُ حتما ماحيا لكلِّ صورةٍ ونورًا باهيا
فتصبح حروف الاسم نورانية في عالم شهوده المعنوي، فكلما أغمض عينيه عن عالمه المحسوس رأى الاسم الأعظم في ليل المحو الكوني.
ويكون السالك بهذا قد قطع مرحلة محو الصور التي كانت تشغل فكره، وتبلبل باطنه.
بمحو الصور الشاغلة الكثيرة، وبقاء صورة نورانية واحدة كريمة، يكون السالك طاهر الظاهر من الذنوب، وطاهرَ القلب من صور الآثار المثيرة للبال، المؤدية إلى تشعب القلب في الشعب الكونية المتعددة، الشهوانية أو المادية الجاذبة.
ومعلومٌ أن المطلوب في مقامات الخصوصية اشتغال الظاهر ( وليس الباطن ) بالعالم المحسوس.
قال تعالى: "رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ"
وورد في الحديث:
"مَنْ جَعَلَ الْهمُوُمَ هَمّاً وَاحِداً، ... كَفَاهُ اللهُ هَمَّ دُنْيَاهُ. وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ اللهُ فِي أيِّ أَوْدِيَتَهِ هَلَكَ"
فمحو الصور الباطنة طهارة ملكوتية معنوية، تضاف إلى طهارة الجوارح الشرعية.
وصورة لفظ الجلالة في هذه المرحلة من السلوك صورة كريمة عليّة لا تضرّ، فهي الكلمة المقدسة العليا.
لكن الطريق يتجاوز الملك والملكوت، إلى الانجذاب في حضرة من بيده الملك والملكوت، وهو جل وعز الذي صنع الملك والملكوت.
ودخول السالك خلوة المعرفة بعد المحو أنفع من دخوله قبل المحو، لأنه سوف يستغرق في المحو وقتا، يمكن أن يتجاوزه لو كان قبل الخلوة أتم المحو.
قال في النظم:
وعندها يُدْخَلُ طَوْرَ الخلوةِ ومنزلَ الفناء مجلى الهيبةِ
أي بعد المحو (على ما اخترناه) يبدأ السالك العروج بإذن دليله وإرشاده في معارج المعاني، معراجا معراجا، حتى يغيب عن الكون، ويغيب عن شهود وجوده، فيصير منجذبا إلى وجود الحق، منجذبا في الهوية الحقية بلا خلق.
ولا تصح معرفة العارفين ما لم تكن لهم هذه الغيبة الباطنة.
والسالك في الخلوة متشرّعُ الحركات، يقضي كل وقته في الذكر، ويكون على وضوئه مستقبل القبلة، صارفا لجميع الخواطر والوساوس التي قد تطرأ عليه.
فإذا تحقق له الاستغراق، يصبحُ غريق الهيبة، ساجد السر للجلال.
وللدليل المرشد اختياران، فإما أن يُخرجه من الخلوة ليتمكن بعدها مدة من مقام الفناء هذا، وهو الأنفع والأجدى، المشار إليه في النظم بقوله:
ثم يكونُ باطنا مشاهدا وظاهرا موافِقًا وعابدا
أي يكون في صلاته وبيعه وشرائه وجهاده وخدمته غائب السر في حضرة الجلال، ويكون في ظاهره قائما بأحكام الشريعة كما يقوم جميع المؤمنين...
وإما أن يبقيه في الخلوة لينقله من الفناء إلى شهود إمداد الحق للكون، ليكون في محل البقاء، وهذا الاختيار نافعٌ لمن كان بعيد المكان عن الدليل، قليل اللقاء الشبحي الجسماني به، فيختصر له بالذكر والمذاكرات معرفة البقاء بعد الفناء، ولا يُنصحُ بالاختصار، لأنه نادرا ما يثمر رجالَ المعرفة الأفذاذ.
وبعد أن استفاض في شرح التربية والترقية الفردية للسالك، وثنائية الصلة السببية بينه وبين دليله العارف، أراد أن يبين صلة الدعوة إلى الله بالسلوك في هذه المرحلة، فقد نجب وعرف واستفاد، فهل يشترط للدعوة إلى الله تعالى أن يكون شيخا مرشدا؟ أم أن واجب الدعوة إلى الله يزيده فهما وارتقاء حال كونه سالكا نجيبا؟
وعلى هذه الأسئلة أجاب فقال:
وكلما ذَكّرَ بالله ارتقى وازداد فهمًا ونقاءً وتُقى
فقرر أن الدعوة إلى الله تعالى ما هي في هويتها إلا تذكير.
قال تعالى لحبيبه: "فذكر إنما أنت مذكّر"
وتذكير الخلق بالله تذكيرٌ للسالك إن غفل، وتلذذ بذكر الحبيب إن لم يكن غافلا عنه.
ألم يقل المحب:
أدر ذكر من أهوى ولو بملام فإن أحاديث الحبيب مدامي
فقد تلذذ بذكر حبيبه حتى لو ذكره أعداؤه، لأن مجرد ذكر الحبيب يجعل الروح سعيدة، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره، ومن أحب شيئا أحب أن يَكثُرَ ذكرُه.
فالتذكير في الدعوة يزيد السالك ارتقاء.
والحوار الناتج عن الدعوة بينه وبين المدعوين يُعلّم السالك الجواب الحكيم المتدرج المتناسب مع كل سؤال، أو محاورة.
فأنتجت الدعوة بتذكيرها وحوارها زيادة فهم، وهي أيضا تنتج زيادة التقوى لأنها تزيد الخشية، والخشية سبب التقوى الأكبر، والتقوى تمكّن النقاء الباطن، فصارت نتائج دعوة السالك التي تعود عليه أربعة:
- التذكير.
- زيادة الفهم والحكمة بالحوار.
- التقوى.
- النقاء الباطن.
ولذلك قال أشار إلى النجابة بعد إكثار السالك للدعوة بقوله:
حتى يصيرَ بينهمْ نجيبا وعارفا ولبِقا أديبا
والنجابة قدرة السالك على معالجة الموضوعات المتعددة في مقامات الإسلام والإيمان والإحسان، وحُسنُ تدبيره وتعبيره في الظروف المكانية والزمانية المتعددة والمتباينة.
ومن عناصر النجابة المعرفة واللباقة والأدب، فالمعرفة وحدها من غير إتقانٍ للّباقةِ مع الناس والأدب مع الخلق لا تكفي ليكون السالك نجيبا، لكن اجتماع الثلاثة يجعله عارفا وآلفا، ومألوفا، والألفة بالخلق في هذا المقام لا تتعارض مع المعرفة ولا تحجب عن الحق، لأنه يشهدهم مستمدّين، ويراهم كؤوسًا للمعاني، فليس حاله معهم كحاله القديم قبل المعرفة حين كانوا له حجابا، بل إنه صار يشرب بهذه الكؤوس أطيب الشراب، فيزداد قربا، ويبتهج حُبا.
وهنا يشير إلى اختيار الدليل العارف لبعض النجباء، ليكونوا في محل الدلالة والتعريف.
وقد خلط قوم بين وظيفة الدلالة والتعريف، وإمارة القوم المندرجة في توجيه الإسلام إلى التنظيم والوحدة بعيدا عن التشتت، فتنظيم التجمعات بالإمارة والشورى لا صلة له بوظيفة التعريف، فربما يأذن الشيخ لثلاثة أو خمسة يقومون بما يقوم به الشيخ من الدلالة والتعريف، لكن ضمن منظومة واحدة لا تعاني من التشتت والتمزق، فالتشتت والتمزق سببه الرغبة في تعديد الإمارات، وتكثير الجماعات، وهو جهل بمقاصد الشريعة ما بعهده جهل، وإعمال لرغبات النفس وشهواتها، وتضييعٌ لسرّ الله، فو الله لا يجتمع سرّه تعالى مع تكالب النفس على الرياسة والإمارة.
فمن الحكمة إذا كثُرَ النجباء أن يأذن الشيخ لبعضهم بالدلالة والتعريف، ويبقى اجتماع القوم، ويبقى نظامهم، ووحدة قلوبهم، واجتماعها على الله، ولا يتشتت أمرهم لأنه مضبوط بالإمارة الواحدة، والشورى المحيطة بها، وبالأمرين يدوم الانتظام، ويستمرّ الاجتماع، وتنتجُ النتائج، وتظهرُ الثمار.
ولذا قال:
وربما يُختار للتعريفِ أو يعضُد الإخوانَ بالتوظيفِ
أي قد يختار الشيخ هذا السالك وبعضَ إخوانه لوظيفة تعريف الخلق بالله، فيكونون معا في خدمة الدعوة إلى الله تعالى ولأحكامه.
وربما يرى الشيخُ إشغال بعضهم ببعض الوظائفِ التي يحتاج إليها اجتماعُ القوم كالخدمة، أو الإنشاد، أو التأليف والتصنيف، أو إعانة الإخوان بالنفس أو المال، إلى آخر ما هنالك من الحاجات الاجتماعية، فلا يُشترط اختيار النجيبِ للتعريف، بل قد يكون اختياره للتوظيف أنفع له ولإخوانه.
ثم قال في النظم:
وبتكاثرِ الكرام الأتقيا النجباءِ العارفينَ الأصفيا
يخرجُ مِنْ زرعِ النقاءِ شَطْؤُهُ مؤازرًا ويستبينُ نشؤُهُ
فأشار إلى أسلوب تكاثر النوع الذي يستمدّ معناه من القرآن الكريم، من قوله تعالى:
"وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ"
فالنوعُ الكريمُ ينتجُ المثيل الأصغر، فيكبر الأصغر وينتج مثيلا أيضا وهكذا ...
فيتكاثر أهل المعرفة والتقوى والنجابة والاصطفاء، وكلما كان تكاثرهم صحيح المبنى والمعنى كلما كانت المؤازرة أشد.
فالتعاون والتكامل والتآخي والأخلاق الفاضلة والآداب الرفيعة يشدّ بعضهم إلى بعض، وهذا الصنف هم أولياء الله تعالى، وليسوا أولياء الشيطان والنفس، فأولياء الله تعالى يجتمعون ولا يتفرقون، كما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حوله ولم يتفرقوا، وأولياء النفس والشيطان يتفرقون.
ولذا قال:
وبالكرام الأولياءِ نصرُنا وعزُّنا وفوزنا وبِشرُنا
فتُزهرُ الدنيا بأهلِ الآخرةْ وتزدهي في الأرض أيٌ باهرةْ
لأن ازدهار الأمة لا يكون بكثرة العدد مع غثائية النوع، بل يكون بكثرة النوع الذي تربى على مفهومات القرآن العظيم وسنة المصطفى الكريم.
وبوجود النوع المتميز يحصل النصر والعز والفوز والسعادة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ.
فالضعف والفقر والفاقة عند أهل الفهم والتحقيق لا يعني الضعف والفقر الحسيين، بل استشعار الضعف والفقر والفاقة والحاجة إلى الله تعالى في كل وقت، وهو معنى العبدية لله تعالى، التي هي أعلى مقامات القوم.
وفي الحكم: "العارفُ لا يزول اضطراره"
وحينما لا نقصر في تكثير هذا النوع سنرى أزهار الآخرة في الدنيا، وسنشهد آيات الله الباهرة في الأرض.
ثم ختم النظم بقوله:
هذي خلاصةُ الطريقِ الأقومِ ومنحةُ الله المجيدِ الأكرمِ
وهذه مِنْ نورِ دربِ المصطفى ونهجِ مَنْ في الله صَفّى وصَفا
فبيّن أن معاني النظم مستمدة من مقاصد القرآن العظيم، وسنة النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وسيرة السلف الصالح الذين توجهت قلوبهم إلى الله تعالى فصفوا، وكان من آثارهم تصفية الخلق من علل النفس والهوى والتعلق بالأغيار.
نسأل الله تعالى أن يقبلنا فيمن يلتحق بهم، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يتقبله بقبول حسن، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الفقير إليه تعالى: محمود أبو الهدى بدر الدين الحسيني

أعلى الصفحة