الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Articles المقالات
 
مأساة أصحاب القرية
قام بالشرح والخدمة الفقير إليه تعالى محمود أبو الهدى الحسيني
20-12-2011
 
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ
وظيفة الداعية فتح الأبصار والبصائر أمام الحقائق، وإخراجُ الخلق من ظلمات الوهم إلى أنوار العلم، وضربُ الأمثلة وسيلة من الوسائل الناجعة.
والله تعالى حين يأمر بضربِ هذا المثال يختار لنا نموذجا متكررا، لا يهمنا موضعه الجغرافي بمقدار ما يهمنا نموذجه ونوعه.
فأصحاب القرية نوعٌ متكرر في كل زمان، وموجود في كل مكان.
إنه الصنف الجاهلي المستغرق في الملذات، المشغول بالمادة ولوازمها، العابد لرغبات النفس، المؤلِّهُ للهوى، الغافلُ عن صانعِ الأرض والسماء، الجاهلُ بمن خلقه، ورزقه، وأمدّه بالنعم الظاهرة والباطنة.
ومن أعظمِ نعم الله على عباده أن يهيئ لهم من يوقظهم من غفلاتهم، ويفتح لهم بصائرهم، ويُخرجهم من وثنية المادة إلى مراقبة جلال الإله العظيم الواحد وجماله وكماله.
وهكذا أرسل الله تعالى إلى أصحاب القرية المرسلين.
إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ:
وهو يذكر المرسلين هنا بوصفهم المعنوي ووظيفتهم الدعوية التربوية، ويهملُ ذكر أسمائهم وأوصافهم الجسدية والمادية، خلافا لما جرت العادة فيه حين يتحدث عن الرسل فيذكر أسماءهم وأسماء أقوامهم والأماكن التي كانت محل دعوتهم، فالمراد هنا أن يُظهر من خلال هذا المثل نموذجه السلوكي، ومعانيه الاعتبارية، لا توثيقه التاريخي، وحكاية أحداثه، ليكون هذا المثلُ حاضرا أمام أعينُ كل الدعاة إلى الله تعالى، بعيدا عن شخصنتهم، وسجاياهم ومزاياهم وخصوصياتهم.
وهاهنا تنقلب القاعدة القائلة: العلم يؤتى ولا يأتي، لأن الآية تقول: إذ جاءها المرسلون، فلم يأتِ أصحابُ القرية إلى المرسلين، أو الدعاة أو الأولياء، لكنهم جاؤوا إلى أصحاب القرية مبلغين وهداةً ومعلمين، وهو درسٌ لكل من تعلّم وتدثر في كهفه، أو تربع في برجه العاجي.
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ:
والقرآن حين يتحدّث عن هذا العدد ( اثنين ) فإنه يلفت انتباهنا أن الجماعة تبدأ باثنين، ولطالما أخذ العددُ الكبيرُ عقولَ الناس، وليس هذا المنحى إلا طريقَ الوهم، فالنوعُ المملوء معرفة وحكمة واستقامة، يتفوق على الكمّ الغثائي الفارغ من المضمونات.
هما اثنان، لكنَّ كل واحدٍ منهما عازفٌ قلبه عن الدنيا، طامعٌ في رضوان الله، راحلٌ بنفسه إلى جنة عرضها السموات والأرض، مشتاقٌ بروحه إلى لقاء المليك المقتدر، مشفقٌ على أولئك الغرقى في الغفلات، راغبٌ في يقظتهم، وانفتاح بصائرهم، راحمٌ لهم، وحريصٌ عليهم.
هما اثنان، لكنَّ كل واحد منهما واثقٌ بربه، قائمٌ بأداء وظيفته في الدعوة والتربية، غيرَ آبهٍ بتأخر النتائجِ أو انعدامها، لأنه لم يؤدّ تلك الوظيفة عن توقٍ نفساني إلى زعامة أو شهرة، لكنّه يؤديها امتثالا لله الذي أمره بها، وعبودية له.
هما اثنان لكنَّ كل واحدٍ منهما منسجمٌ مع ذاته، لا يتناقض ظاهره مع باطنه، ولا قوله مع فعله، ولا سلوكه مع ما يدعو الناس إليه.
فَكَذَّبُوهُمَا:
وهذه سنة الله في أحبابه، يتكلمون بالحقِّ فيضعُ السفهاء أيديهم على أفواههم، ويصدعون بالحجة، فيردُّ عليهم النفعيون بالمصالح، وما أيسر التكذيب على أعمى البصيرة، وما أقربَ الإنكار إلى غريق المتع، لأنَّ هؤلاء الماديين مدعووّنَ إلى عبودية الله بدلا عن عبوديتهم لأهوائهم، وعبوديتهم لله تحولهم من الفوضوية التي تهواها النفوس إلى الانضباط الذي يفضي في الآجل إلى الإطلاقِ في نعيمٍ لا نهاية له، لكنّهم هُواةُ العاجلة، فلا صبر لهم على الانتظار، ولو كان في ترك الانتظار هلاكهم.
والخفافيش التي ألفت الظلام تنفر من الشمس، وتبغض النهار، لذلك سارع أصحابُ القرية إلى التكذيب.
فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ:
ولم يعزز بجماعة كبيرة منظّمة، ولا بجيوش جرّارة، لكنه دعم الاثنين بثالثٍ يتساوى معهما في النوع، ويرفعُ في الأعينِ الحسية مقبولية التصديق.
وهنا يُظهرُ القرآن دور الواحدِ في دعم الاثنين، فإنَّ الواحد منا يقول في الغالب: ما عساي أن أفعل وأنا واحد، ولو أنه اعتبر نفسه هذا الثالث الذي عزز الله تعالى به الاثنين، واجتهد ليكون في النوع المقبول عند الله لكان التغيير في متناول اليد، لكننا نُحبِطُ أنفسنا بوهم الأعداد والعُدد، ولا نستفرغ الوُسعَ في الجِدّ والاجتهاد، وصولا إلى تكميل النفس، وتنوير المحيط.
فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ:
وهاهنا يقدم القرآن نموذج المؤسسة، التي لا تلمّعُ الأفراد، ولكنها تتحدث بلسان المؤسسة الجماعية ببيانٍ واحدٍ لا اختلاف فيه ولا اختصام.
هاهي مؤسسة رسالةٍ دعْوية تتحدث إلى الناس، فتبينُ وظيفتها، وتعلنُ عن وحدتها وتكامل أعضائها.
قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا:
ليس شيءٌ يحجبُ الناسَ عن الانتفاعِ بكؤوس العلم والمعرفة والولاية من أهل الخصوصية كرؤية المماثلة البشرية الحسية، فمن تأمل في أنبياء الله تعالى وأوليائه وأهل خصوصيته يجد مماثلتهم للبشر في الأحوال المعتادة، والشؤون الجسدية، ولكنَّ العقل الباطنَ في وهمه لا يقبل الخصوصية إلا على الأجنحة الخارقة للعادة، والهالات البرّاقة المحيطة بالشخص المقصود، قال تعالى:
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ، أَوْ يُلْقَى
إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا {7- 8} الفرقان
وكم يضيعُ الخاصّةُ بين العامّة، وكم يرتفعُ التافه، وينخفضُ النفيس، وكم يُحجبُ بما تقدّم مدّعي السلوكِ وطالبُ القربِ عن سبب قربه ووسيلة سلوكه من خاصة الله وأهل قربه.
وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ
وهذا القول من أولئك المحجوبين هو من باب الأَولى ، فإذا كانوا لا يتصورون مقرّبا من الرحمن في الصور والهيئات المعتادة، فكيف يتصورون تنزّل شيء من الرحمن، والرحمن إله فوق التصورات، فقد تعثروا في قضية خصوصية الرسول المماثل لهم في البشرية، أفلا يتعثرون في نسبةِ حُروفٌ أنزلها الرحمن.
إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ
وما أسرع عداوة الإنسان لما يجهله، وما أعجل الإنسانَ في التكذيب، حين يغلقُ عقله عن البراهين الناصعة، ويلهثُ خلفَ الزخارف المادية الفاقعة.
قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ
وهنا يظهرُ الاكتفاء بعلم الله عن علم البشر، ورحم الله من قال: " مَتَى آلمكَ عَدَمُ إِقْبَاِلِ النَّاسِ عَلَيْكَ، أَوْ تَوَجُّهُهُمْ بِالذَّمِّ إِلَيْكَ ، فَارْجِعْ إِلَى عِلْمِ اللهِ فِيكَ، فَإنْ كَانَ لا يُقْنِعُكَ عِلْمُهُ فِيكَ بك، فَمُصيبَتُكَ بِعَدَمِ قَنَاعَتِكَ بِعِلْمِهِ أَشَدُّ مِنْ مُصِيبَتِكَ بِوُجُودِ الأَذَى مِنْهُم" فعلم المخلوق مهزوز بالشك أو الوهم أو الظن، ومن استند إليه أمضى عمره مهزوزا، أما علم الحق تعالى بعبده فهو حقيقة ثابتة أزلية أبدية، وهكذا عاش المرسلون حال الطمأنينة لاكتفائهم بعلم الله.
وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ
أي وظيفتنا امتثال أمر الله تعالى في التبيين والتبليغ وشرح الأدلة والتعريف بالله تعالى وبأحكامه، فإن قَبِلَ الناسُ دعوتهم مع اجتهادهم في تبيينها أو لم يقبلوا بها فإن وظيفتهم قد تمت، وحازوا بأدائها رضوان الله تعالى.
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ
وفي البيئة التي يغيب فيها تفكيرُ العقول، تنتشرُ الخرافات، وتتوسعُ الشعوذات، وليسَ التطيُّرُ أو التشاؤم من شيء إلا دليلا على غياب التعقل، وانعدام التأمل.
لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
والعدولُ عن المحاججة ومقابلةُ البرهان بالتهديد والوعيد لغةُ المهزومين الضعفاء، الذين يهربون من قوة المبدأ إلى مبدأ القوة، لأنهم لا يملكون من المقومات الإنسانية ولا الخلقية ولا الفكرية ولا الحضارية شيئا، إنهم يملكون شيئا واحدا هو القوة المادية التي يتوهمون أنها الحصنُ لضعفهم، والسور لخرافاتهم، والدرعُ لفسادهم، ولذلك هدد أصحاب القرية المرسلين بالرجم والعذاب الأليم.
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم:
أجاب المرسلون: كلما ذكرناكم بالله فمعنا الحقيقة ومعكم وهمكم، ومعنا رجاؤنا بالله الحق، ومعكم خرافاتكم وأساطيركم، ومعنا تأييد الله ومعكم شياطينكم،
بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ:
فليست المشكلة في الدرجة الأولى تشاؤمكم، أو استتاركم بهذا التشاؤم، أو هروبكم من العلم إلى الوهم، لكنَّ المشكلة أنكم درجتم على الإسراف، والانحراف، والابتعاد عن الضوابط التي تنظمُ حياتكم، وتعيد إلى الطمأنينة بواطنكم، ولذلك صرتم تبحثون عما يشبعُ نهم نفوسكم، ويبرر بالخرافة سلوك جموعكم.
وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ:
وهنا يُدخل القرآنُ مفردة جديدة في الصورة الدعْوية، فقد قدّم قبل ذلك تقابل الرسل الثلاثة مع أصحاب القرية، وهي صورة الدعوة المثالية، لكنه أضافَ إلى اللوحة دعوةَ رجلٍ صالحٍ لقيت كلماتُ الرسل في قلبه محلا، ونزلت في عقله السليم منزل القَبول، فآمن بالحق، وتبرأ من الباطل، ورجع عن طريق الإسراف إلى منهج الاستقامة، والذي يميزُ دخول هذا العنصرِ في اللوحة أنه رجلٌ لم تجب له العصمة، ولم يكن رسولا ممن تستحيل عليهم المحظورات، فهو كغيره من المرسَلِ إليهم مختارٌ بين دعوة الخير وجاذبات الشر، وهو يملك الاستعداد الذاتي لارتكاب المحظورات، كما يملك الاستعداد الذاتي للعروج في منازل الطهارة والنقاء، وها هو مع كونه المؤمن الأوحد المتبِّع للرسل، يأتي من أقصى المدينة، وسكناه في أقصى المدينة يدلّ على فقره، كما كان عليه الناس في الماضي، فلم يمنعه فقره، وانفراده من بين قومه من إتباعه للرسل، ولم يخوفه ما هو متوقع من اجتماعِ قومه على عداوته ومخاصمته، واحتمال قتله، فكان مقرِّرا الجهرَ بالحق، وتأييدَ الرسل.
اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا
وهي صدمة عقلية لأصحاب المصالح، الذين يبنون سلوكهم على أساسها، ويخططون وفق قواعدها.
ألم يتفكر هؤلاء الماديون في سلوك أولئك الرسل الغريب عنهم؟ لماذا تحملوا عذاب الدعوة؟ ولماذا صبروا على تكذيب الناس؟ ولماذا خالفوا العادات التي أنست بها النفوس، وهجروا الملذات التي يلهث وراءها القوم؟
ألا يستحقُّ هذا السلوك المضحي وقفة تأمّل؟
فمهما كان صاحب الفكرة داعيا لفكرته فإنه سوف يملُّ منها حين يرى انعدام الجدوى منها، إلا الدعاة إلى الله، فإنهم لا يملون من الدعوة إليه، ولو كانوا يلفظون أنفاسهم، فإنهم ما دعوا إلا لمرضاته، وما رغبوا إلا في قربه، وما هذه الحياة بالنسبة لهم إلا ممرٌ تكليفيّ يكون بعده التكريم والتشريف الخالد.
وَهُم مُّهْتَدُونَ
يقول الرجل لقومه، إن ما نسمعه من كلمات الرسل يدل على صوابِهم العقلي، وليس على ضلالهم وضياعهم، وما نراه في سلوكهم يدلُّ على وسطيتهم وبعدهم عن الإفراط والتفريط، فكيف لا يكونون في عين الهداية.
وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي
والعقل السليم يؤيد ذلك، فمن يستحقُّ العبادة، والتوجه إليه، والسجود له، كالذي خلقَ ذلك العابد المتوجه الساجد؟
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
فالدافع إلى عبادة الله تعالى وحده، أنه وحده الخالق، وأنه وحده الذي يرَجعُ أمر الخلائق إليه في الدنيا والآخرة.
أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ
ويتابعُ الرجل المؤمنُ القرعَ على أبواب عقولهم وقلوبهم لعلها تَشعُر بالحق، فيستنكر توجه الخلق إلى غير الخالق المنفرد بالتأثير، فكيف يتوجه العاقل إلى غيره، وغيره لا يملكُ إنقاذَ العبد في المهمات، ولا يقدر على تغييرِ الشدة أو تخفيفها بأي نوعٍ من أنواع التدخل.
إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
فلو أنني توجهتُ إلى غيره تعالى فسأكون في ضياعٍ بيّنٍ عن التعقل وطريق الصواب.
إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ
وبعد أن قدّم البراهين، وخاطب العقول، وحاول تحريك القلوب، واستمالة النفوس، وجد إعراضهم، وإصرارهم على الكفر والضلال، فأعلن مفاصلته ومقاطعته لكفرهم وضلالهم، وتحدّى كثرتهم عليه، موقنا أنَّ العاقبة للمتقين، فما كان منهم إلا أن تكالبوا عليه، وقتلوه شرّ قِتلة، ومزقوا جسده الطاهر.
ويقف المتأمل في الموقف متفكرا في هذه اللحظة: ألم يقل قبل قليل وَلاَ يُنقِذُونِ أي أنهم لا يستطيعون إنقاذه، ولا يستطيعون الإضرار به، لكنه هاهنا أصبح ممزقا بأيديهم، مقطعا بسيوفهم، فهل أخطأ فيما قال؟
ألم يكونوا قادرين على إنقاذه لو تزلف لهم؟
ألم يكونوا هم الذين أوقعوه في الضرر؟ ألا يعني هذا أنه ينفعونه ويضرونه؟
وما معنى قوله قبل استشهاده:
إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ
سيكون الأمر مشكلا على الجاهل لو توقف عند هذه النقطة، لأن الوقوف عندها يختصر الحياة في سنوات الدنيا، لكن القرآن الكريم واصل النقل، وتابعَ تصوير الرحلة، حين نقل ترحيب ملائكة السموات به، وانفعال الملأ الأعلى له، وانفتاح أبواب الجنة له
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ
وبهذه النتيجة يزول مشهد الجسد المقطع، والدم النازف، ويظهرُ مشهدُ الروح السعيدة، المبتهجة بلقاء الله، المسرورة بما وجدت عند الله.
وقد جاء في صحيح مسلم "عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللّهِ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذِهِ الاَيَةِ: {وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} (3 آل عمران الاَية: 1) قَالَ: أَمَا إِنّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: "أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ. لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنّةِ حَيْثُ شَاءَتْ. ثُمّ تَأْوِي إلَىَ تِلْكَ الْقَنَادِيلِ"
قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
فلما استقرّ في النعيم والملك الكبير، مرزوقا، منعَّما، مسرورا، تمنى زوال الحجب عن قلوب الكفار من قومه، حتى يعلموا أن الدنيا بكل ما فيها من الزخرف لا قدر لها مقارنة مع كمال الآخرة وفضلها ونعيمها وسعادتها ورضوان ربها، وما فيها مما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ
فتمنى علمهم بإكرام الله تعالى له ومغفرته له، لعلهم يتحولون عن التعلق بالمادة الزائلة التي أعمت قلوبهم، وصرفتها عن الحق، واللافت للنظر أنه لم يحقد على من قتله وقطّع جسده، لكنه مع كل ما فعل تمنى له أن يكون من أهل الجنة.
وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ
فكان القتلة أهون على الله تعالى من أن يهلكهم بجنود السماء، فقد أهلكهم بصوتٍ أرضي سماه صيحة، قد تكون ناتجة عن خسف أو ما يماثله.
فإذا هم خامدون، وتَقابُلُ الصيحةِ المهلكة بالأمر الإلهي للخمود والهمود والسكون تصويرٌ بليغٌ يُظهرُ تطاولَ الفاجرِ مع شدة ضعفه، واستكبارَ الكافر مع غاية عجزه أمام الذي هو على كل شيء قدير.
إنها مأساة أصحاب القرية العالمية المعاصرة الجديدة، التي تشبه بتفصيلاتها مأساة أصحاب القرية القديمة، ولكنها درسٌ يستفيد منه جميع الدعاة.
أعلى الصفحة