الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Articles المقالات
 
شرح حزب البحر
كتبه الفقير إليه تعالى: محمود أبو الهدى الحسيني
2-12-2011
 
اللَّهُمَّ يا عليُّ يا عظيمُ يا حليمُ يا عليمُ
اللهم: قال اللغويون معناها ( يا الله ) وقالوا: ( إن الميم المشددة عوض من يا، وإن الميم في آخر الكلمة بمنزلة يا في أَولها )
ونقول: إن يا تفيد مناديا ينادي، ولكنه ابتدأ بالاسم الأعظم ليمحو ما سواه، فلا يبقى من ينادي ولكنها تجليات الحقيقة تجري على اللسان، وجعل النزول بعد المحو إلى الصحو بالميم المحمدية، لأنه لو بقي يقول الله الله لاستغرق وقد لا يعود فأعاده بالواسطة المسؤول في قوله تعالى ( وإذا سألك عبادي عني ).
فلما نزل من جمعه إلى صحوه وجد عبوديته وذله وحاجته وفاقته فتعلق الدني بالعلي فنادى:
يا علي: وعلوه علو مكانة لا مكان، فهو المطلق عن المكان والزمان.
واستشعر وهو على أرض عبوديته حقارة منزلته بدون إمداد مولاه، فنادى من محل تلك الحقارة المحتاجة:
يا عظيم: والعظيم الكبيرُ الواسع الذي لا نهاية لكمالاته، ولا حدَّ لإرادته، يفعل ما يشاء، فلا يسأل عما يفعل، ويتكرّم بالجود والعطاء، فيتلقف إنعامه الفقراء إليه.
وفي هذه المنزلة يعلم العبد أنه لا يحصي ثناء على سيده، ولا يعبده حق عبادته، فهو في طاعته مقصر، فضلا عن هفواته وزلـله، ولذلك نادى من هذا المحل طالبا حلم الحليم فقال:
يا حليم: وحلم الحضرة الإلهية فوق تصور التصورات، فكم يسيء المتمردون إلى جلاله فيمهلهم لعلهم يتوبون عن تمردهم، وكم ينسبون إليه ما لا يليق به من الصاحبة والولد، ويجعلون له من عباده جزءًا فلا يعجل بهم العقاب، ولا ينزِّل عليهم عذاب الاستئصال، وكم يتجبر المتجبرون ويتكبر المتكبرون ويظلم الظالمون وهو تعالى يرزقهم ويمدهم ويملي لهم ويؤخرهم إن هم لم يرجعوا عن غيهم إلى اليوم الذي تشخص فيه الأبصار، وكم يعصي العصاة، ويقع في الفسوق المذنبون، فيبدل عند توبتهم سيئاتهم حسنات، فما أجلّ حلمه، وما أجود كرمه.
ويعود العبد إلى حضرة علم الحق، فيخاطبه باسم تلك الحضرة الكمالية قائلا:
يا عليمُ : وهو موقنٌ أو مشاهد أنه بِكُلِّ شَيْءٍ في الملك والملكوت وعوالم العزة خبير عَلِيمٌ، وأنه في أرض التكليف عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ، كما أنه عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ والْمُفْسِدِينَ، وأنه بالظواهر من الأفعال الحسنة عليم وهو القائل: وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ، كما أنه بالبواطن ونيّات الأفعال عليم وهو القائل: إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، فلما أيقن أو شاهد تلك الحضرة العلمية الكمالية اكتفى بها عن الظنون، وأعرض عن اتهام البشر، وأدار ظهره لأوهام المتوهمين، وأيقن أن علم العليم به هو الحق، وما سواه ضلال وباطل، فاستغنى بعلم العليم عن الأوهام والظنون، وتوكل على سيده الحي الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون، ونادى من أرض العبودية سيده قائلا:
أنت ربي وعلمُكَ حسبي ، فنعمَ الربُّ ربي ونعمَ الحسْبُ حَسبي
أنت ربي : الذي أظهرتني من كوني العينَ العلميةَ الخفيّة إلى العالَمِ المحسوس لأصير عينًا حسيّة ظاهرة، واعتنيتَ بي حين أخرجتني من بطن أمي جاهلا فعلمتني، وأكرمتني بالإمداد طفلا وشابا وكهلا، فلا أسجدُ بجوارحي وقلبي إلا لك، ولا أنتهجُ في دروب عالم الحكمة إلا طريقَ حبيبك ، فأنت وحدك المعبود بحق، اللطيف بعباده في كل الحوادث والأقدار.
فنعمَ الربُّ ربي: ما أكمل أوصافه، وما أحسنَ جوده وإنعامه، وما أسعدني بنسبتي إليه حين أكون عبده وحده.
ونعمَ الحسْبُ حَسبي: وما أكمل حضرته العلمية التي أكتفي بحقائق معلوماتها التي لا تتغير ولا تتبدل، فهي في الأزل كما هي في الأبد، فلما علمتُ أن ما عَلِمَهُ مما يكون لا تُغيره إرادات المخلوقين، ولا تبدّله اجتهادات المجتهدين، رضيتُ مع أخذي بالسبب بعِلم العليم، وسكنتُ مع قيامي بواجباتي بحكمة الحكيم.
تنصرُ من تشاء وأنت العزيزُ الرحيمُ :
تنصرُ من تشاء: على نفسه بقدرتك فترجع تلك النفس الأمارة راضية مرضية...
وتنصر من تشاء على شهوة التعلق بالسوى، فيستغرق سرّ المــَظهرِ في مُظهره...
وتنصرُ من تشاء بمظاهرِ رضوانك على مظاهر خذلانك وغضبك، فيهزمُ الباطلُ ويُعزُّ بك الحق المحمدي...
وأنت العزيزُ الرحيمُ : أنت المنفرد بسلطانه فلا ينازعه في حقيقة انفراده أحد، وأنت المتلطف بخلقك الرازقُ الكريم الجواد الذي يعطي من أقبل ومن أدبر من عطايا دنياه، ويخصُّ بالكرامة في الآخرة من اصطنعه لنفسه، وكمّله على أعينه.
نسألُكَ العِصمةَ في الحركاتِ والسَّكنَاتِ والكلماتِ والإراداتِ والخَطَراتِ:
نطلب من فضلك حفظًا في حركاتنا الفرقية، وسكناتنا الجمعية، وحفظَ اللسانِ حين يُخرجُ الألفاظ حتى لا يتلفظَ بما نهيتَ عن التلفظ به، وحفظ القلبِ عند نيته وإرادته حتى لا يريد إلا ما أردته في التشريع المحمدي، وحفظَ الروح حتى لا تنازع في التدبيرِ خالقها، وهي التي أُمرت بالتدبير، فقامت به امتثالا، وعلمت أن تدبيرها مجازي سببي، وأنه لا تدبير على الحقيقة إلا تدبير الله تعالى، فأنابت إليه، وسكنت إلى عظمته.
من الشكوكِ والظُّنونِ والأوهام الساترةِ للقلوبِ عن مُطالعةِ الغيوب : أما الشك فيتساوى فيه الميل إلى الحق والباطل في العقل، ويميل العقل في الظنّ إلى الحقّ أكثر من ميله إلى الباطل لكنه يحتفظ بذلك الميل الباطلي القليل، ويميلُ في الوهم إلى جانب الباطل أكثر من ميله إلى الحقّ، ومثلُ ميل العقل في الحسيّات والمعقولات ميلُ القلب في الرغبات والإرادات، وميلُ الروح إلى التدبيرات الخلقية، وكلُّ ميلٍ مما تقدّم ساتر عن الشهود والعيان، وحاجبٌ عن مطالعة الحسنِ الكمالي الفتّان.
فقدِ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا : أخذهم بلاء التكليف الدنيوي في الحركاتِ والسَّكنَاتِ والكلماتِ والإراداتِ والخَطَراتِ، ومداهمة الشكوكِ والظُّنونِ والأوهام لقلوبهم وأرواحهم، مع شدة حرصهم على التزام الأدب بين يديك، والإعراض عن أوهام سواك، وما سواك إلا أوهام، لكنهم مع كل هذا واثقون بسترك، لأنهم لما استيقنوا عجزهم وفقرهم وفاقتهم طلبوا من حضرتك أن تستر أوصافهم بأوصافك، لا سيما بعدما سمعوك تقول: ومن يغفر الذنوب إلا الله .
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا : وأمام تململ المتوجهين إلى الحضرة الكمالية وخوفهم من الالتفاتات العارضة يتصيدُ الموافقون في الظاهر المخالفون في الباطن ليدفعوا الصادقين إلى حفر سوء الظن بتجليات الحقيقة الإلهية وأحكام الحكمة في الشريعة المحمدية.
فَثَبِّتنا وانصرنا: فثبتنا على الشهود بقدرتك، وانصرنا على المضللين بحكمتك.
وسَخِّرْ لنا هذا البحرَ: من عطايا التثبيت وفيوضات التوليّ والعناية والإمداد.
كما سخَّرْتَ البحرَ لموسى: فقد سخرتَ له البحر المائي ليكون معجزة يراها أهل المحسوس، وسخرت له بحرا من رعايتك يوم ألقته أمه، وبحرا من عنايتك يوم اعتنى به النبي شعيب، وبحرا من تقريبك وإيناسك يوم كلمته وأرسلته.
وسخَّرْتَ النارَ لإبراهيمَ: فجعلتَ النار المحسوسة عليه بردا وسلاما، وأخرجته من نار حبه لولده وأم ولده، وحجبت عنه إحراق نار الغضب حتى صار الحليم الأواه.
وسخَّرْتَ الجبال والحديد لداودَ: جعلتَ جبال الحجارة ترددُ مع داود ترانيم المحبة والشوق للواحد، حتى استجاب الحديد لتلك الترانيم فلان، وجعلتَ قلوبَ اليهود التي هي كالحجارة أو أشد قسوة مُعَظّمة للنبي المحبوب اللطيف الراكع الساجد داود.
وسخَّرت الرِّيحَ والشياطينَ والجنَّ لسليمانَ :
كانت الريحُ وسيلة التنقل لسليمان عليه السلام، يتفقد بها رعيته، وينشر بينهم العدل والاستقامة، كما أنه بإذن الله صرَف الشياطين إلى البناء والتعمير، بدلا عن الإغواء والتكدير، ووجه المؤمنين من الجنّ إلى أفعال الخير، وخدمة عباد الله، وإذا اعتنى الحق تعالى بعبده يحمله بريح ألطافه من الملك إلى الملكوت، ومن الملكوت إلى الجبروت، كما سيأتي في الدعاء: (وهبْ لنا ريحاً طيّبةً كما هي في علمك) ويطلقه بفضله من حبسِ الأكوان إلى الاستغراق الشهودي في أحدية الأحد، وتجليات الواحد، وعندها تخضع الشياطين لسلطنة عبوديته لله تعالى وحده، وربما يكونُ مؤمنو الجنّ خدما وأعوانا له.
وسخِّر لنا كلَّ بحرٍ هو لك في الأرض و السماء والملكِ والملكوتِ وبحرَ الدنيا وبحرَ الآخرةِ وسخِّرْ لنا كلَّ شيء يا من بيده ملكوتُ كلِّ شيءٍ: أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوّن، فإذا شهدته كانت الأكوان معك، ولذلك يُسخَّر لعبد الله ملكُ الله تعالى وملكوته، ودنياه وآخرته، فإذا التفت إلى شيء من المخلوقات وكله إليه، وخلع عنه حلية ولايته.
 كهيعص  (3) : وفي التكرير زيادة التبصّر، والانتقال في معارج الفهوم.
فالكاف: كمالات الحق التي لا نهاية لجلالها وجمالها.
والهاء: هيمنة الحق على كل شيء.
والياء: يد جوده وعطائه وإحسانه وكرمه.
والعين: عين رعايته التي يصنع عليها أحبابه.
والصاد: صونه وحفظه لمن تولاه.
وبعدما استنجد بكمالات الحق وأوصافه طلب بعض المطلوبات التفصيلية فقال:
اُنصرنا فإنك خير الناصرين، وافتح لنا فإنك خيرُ الفاتحين، واغفر لنا فإنك خير الغافرين، وارحمْنا فإنك خيرُ الراحمين، وارزقنا فإنك خيرُ الرازقين، واهدِنا، ونجّنا من القومِ الظالمين: طلب النصرَ، والفتحَ، والمغفرة، والرحمة، والرزق، والهداية، والنجاة من أهل الظلم.
ووافق القرآن في تقديم النصر على الفتح كما قال: ( إذا جاء نصرُ الله والفتح) ، فإذا نصر الله تعالى عبده على نفسه، وشيطانه، ورغباته في المخلوقين، فتح له باب معرفته، وأخرجه من سِجن الكونِ إلى فضاء الشهود، ثم يردّه إلى عبوديته في الفرقِ الثاني النوراني، فيلزمه الذنب والتقصير، لأنه عاجزٌ عن أداء كمال الواجب في عبادة من لا نحصي ثناء عليه، ولذلك طلب المغفرة، والمغفرة سترٌ لا يبقى معه للعبدِ وجود، فطلب الرحمة التي فيها الأمان والسلام والبقاء بعد الفناء، وطلب الرزق المعنوي والمادي له بعدما أحياه وأبقاه، ولتوجيه الرزق المعنوي والحسي فيما ينبغي طلب الهداية، فتوجيه الرزق المعنوي بنشر الأنوار والأسرار إلى محلها والاستعدادات اللائقة لها، وتوجيه الرزق المادي إلى مستحقيه من الفقراء، ومن كان معه رزق الله تعالى المادي أو المعنوي يصيرُ هدف الظالمين حسا ومعنى، فالرزق المادي هدف لصوص الحس، والرزق المعنوي هدف أهل الشرك الجلي والخفي وهو أشد أنواع الظلم، فلا يستقرّ لأهل الظلم المعنوي حال وهو يرون أهل الرزق المعنوي، قال تعالى: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) فإما أن يصبّوا أنواع الأذى بالغيبة أو الكذب أو البهتان أو الحط في المنزلة أو الوصف بما لا ينبغي، وإما أن يصيبوهم بأنواع الأذى الحسي.
وهبْ لنا ريحاً طيّبةً كما هي في علمك: فلما طلبوا النجاة من أهل الظلم رغبوا بالسفر إلى حضرة الكمال، وفيها، محمولين بريح ألطافه الخفية.
وانشرها علينا من خزائِنِ رحمتِك: لأنه تعالى إذا نشر ريح ألطافه عليهم، انتشت أرواحهم، وقويت في طاعته أبدانهم، واستعرت بنار الشوق والمحبة قلوبهم.
واحْمِلنا بها حمل الكرامةِ مع السلامةِ والعافيةِ في الدين والدنيا والآخرةِ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: فما كل محمول سالم، فكم وقع بعض المحمولين بالتفاتة عُجبٍ أو استكبار، أو إهانة وإيذاء لبعض أحباب الله الأخيار، ولذلك طلب مع الحمل السلامة.
اللهم يسِّر لنا أمورنا مع الراحةِ لقلوبِنَا وأبدانِنا والسلامةِ والعافيةِ في ديننا ودُنْيانا:
وتيسير الأمورِ تسييرها فيما يرضيه تعالى من غير محنة مُضرّة، أو فتنة مضلة، فعافية الحق أوسع لعباده.
وراحة القلوب لا تكون إلا بفراغها من الأغيار.
وراحة الأبدان لا تحصل إلا باتباع الحبيب المختار.
وكن لنا صاحباً في سفرِنا وخليفةً في أهلنا: فإننا مسافرون إليك، عن وهم سواك، فإذا كنت تصحبُ من يسافرُ في الأرض، أفما تصحب المسافرين عن نفوسهم، وأكوانهم إلى حضرتك؟
والأهلُ المعنويون هم المولودوة أسرارهم عن سر المربي العارف، وخلافته فيهم تديمُ الحفظ والمعرفة فيهم وفيمن أنجبوا سره.
واطْمِس على وجُوهِ أعدائِنَا وامسخْهُم على مكانَتِهم فلا يستطيعون المُضِي ولا المجيء إلينا:
أي اجعلنا مستورين عن أعدائك، حتى لا يتفرغوا لإرادة صرفنا عن توجهنا إليك، وأبعدنا عنهم في معارج القرب، وكبلهم في محلّ البعد، وقد علمتَ من الأزل أنهم من أهل سخطك وبعدك وخذلانك. ودلل على صحة طلبه بقول الله الذي هو مطلوبه ومحبوبه في كتابه المنير: (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ، وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ) .
وأكد الدليل بفعل الحضرة الإلهية الكمالية مع حبيبها المختار الأكرم، الذي كبّل من أجله أهل البعد والخذلان، وهو تعالى الذي قال له مخبرا عن ذلك: ( يس ، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ، إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ، لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ، لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ، إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ، وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) .
وإيراده هذا المثال من أفعاله مع أحبابه هو من باب استمطار كرمه واستجلاب إحسانه، ليفعل بهم ما يفعله بالأحباب.
(شاهَت الوجوهُ ) (3) : أي قبحت، أي قبح الله وجوه أهل الخذلان، حتى ينفر منهم الناس، لأنهم أسباب الظلمة والتكدير، وكرر ثلاثا للتأكيد والتبصر.
قال تعالى ممتدحا أهل الأنوار: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُود) وكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَنَ الْوَجْهِ، وكان يتفاءل بحسن الوجه وحسن الاسم، لأنَّ الوجه كالعنوان للإنسان، تنعكس عليه أنوار البواطن.
وذكّر بأن الوجوه التي تقبحُ في الدنيا ستكون –كما بيّن الكتاب المنيرُ- ذليلةً خاضعة يوم القيامة للحي القيوم، في يوم يخسر فيه من حمل في ظاهره أو في باطنه ظلما، قال تعالى: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) .
طس: وقبل أن يذكر اختلاط البحرين في قوله ( مرج... الآتي ) ذكر هذين البحرين، فأولهما هو طس، وثانيهما حم عسق وبينهما برزخ.
طس: الطاء طِلَّسمُ الكُنه، وعماء الأحدية. والسين: سرُّ العارف التائه في ذلك الطِلَّسم.
حم عسق : الحاء: حكمة الحق السببية، والميم محمدٌ الأسوة والإمامُ في عالم الأسباب المخلوق، والعين: عبودية صادقة، والسين: سجود دائم هائم، والقاف: قنوت وطاعة، وكلها في البحر الثاني السببي.
وقال بعدها شارحا:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ : ولقاءُ حضرة الحقيقة بحضرة الشريعة حق ثابت، ولا يعتدّ بمن يزعم أنه عارف ولم يلتق فيه البحران.
وبينهما برزخ: فلا بدّ من إفراد الحدوث عن القدم، فالرب رب والعبد عبد.
حم حم حم حم حم حم حم : وهو تكريرُ الاسمين: الحنان، والمنان، وفي هذا التكرير سبع مرات رجاء الإجابة المحققة.
حُمَّ الأمرُ: أي قضي من الأزل.
وجاء النصرُ فعلينا لا يُنصرون: وذلك ثقة بالله واستنادا إلى قوله تعالى: ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) ، ولا شك أن قوله تعالى متضمن نصر أتباع المرسلين.
وأكّد الثقة بوعده تعالى في القرآن حين أورد قوله تعالى أيضا:
(حم ، تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ): وسياق حم هنا يشير إلى أن المراد من الحاء والميم ( حروفٌ معظمةٌ ) هي تنزيلٌ دال على الكلامِ القدسي المنزه عن الحروف، جاء من الله العزيز المنفرد بسلطانه، العليم بما هو كائن وبما لا يكون، وهو لأحبابه غافر الذنب وقابل التوب، ولأعدائه شديد العقاب، وهو في وصفه القدسي ذو الطَول أي ذو الغنى والسعة، ولا ينازعه في طَوله احد لأنه هو الذي لا إله إلا هو، وهو الذي إليه مآل الأولين والآخرين.
بِسم الله بابُنا : فإننا ندخل إلى كل شيء باسم الله، فنقرأ باسمه، ونأكل باسمه، ونجعل مجرى كل شيء ومرساه باسمه، وندخل إلى ملكه باسمه ونعرج إلى ملكوته باسمه، ونخرج من سجن الأكوان إلى فضاء الشهود باسمه.
تَباركَ: حيطانُنا : لأننا لما علمنا أنه تبارك وتعالى بيده الملك، علمنا أنه قد جعل في سورة الملك من كتابه المنير سورا منيعا حافظا للأحباب.

يس: سقفُنا : لأن تاجنا وتاج كل المملكة محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهو السقف الأعلى في الكون.
كهيعص: كِفايتُنا : وهي كما تقدم كمالات أوصافه، وجمال إحسانه، فكيف لا يكتفي بها عبده؟
حم عسق: حمايتنا: وقد تقدم أنها البحر السببي الذي إمامُ حضرته محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وليس شيء يحمي العبد كصلاحه وتقواه واستقامته على طريق المصطفى الحبيب.
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (3) : لأنه تعالى كافٍ عبده، والكافي يكفي عباده كُلَّ مخلوقاته المحتاجة إليه، فهو السميعُ العليم بكل أحوالهم وشؤوناتهم.
سِترُ العرشِ مسبولٌ علينا: وإذا كان العرشُ الذي هو الجسمُ الكُلّي في الكون ساترا لنا، فإنَّ روحانيتنا أوسعُ من الأجرام، فلا تتعلق بها، فنكونُ في محلِّ نظرِ المالك وعنايته، وفي خفاء عن المملوكين وتكديراتهم، وعبّر عن هذا بقوله:
وعينُ اللهِ ناظرةٌ إلينا .
وعن سعة الروحانية المذكورة بقوله:
بحول الله لا يقدرُ علينا.
وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ: إحاطةً علميةً تامة.
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ : فخلاصة الحقائق أنَّ الحضرة الجمعية القدسية قد تفصلت معلوماتها في لوح الكائنات المحفوظ بحفظ الحق، وأكّد معنى الحفظ بإيراد قوله:
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (3) : فهو تعالى مع حفظه وسعت رحمته كل شيء.
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (3) : توليته وحده فتولاني، وأسأله أن يلحقني بالصالحين.
حَسْبِي اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ  (3) : أكتفي بالله وحده وأعتمد عليه، وكيف لا أعتمد عليه وهو ربُّ العرش، الذي كل العوالم منطوية فيه.
بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ) (3) : فإذا كنت بالله لا يضرني شيء في ملكه أو ملكوته، وإذا كنت بنفسي وكلني إليها فتجاذبتني الهموم.
( أعوذ بكلمات الله التَّامَّات من شرِّ ما خلق ) (3‏) : وكلماته التامّات قد أنزلها على مصطفاه فكان بها يتعوذ امتثالا لأمره، وموافقة لحكمته.
(ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم ) (3) : فأي حول وأي قوة لمخلوق أصله العدم وهو في حكم العدم في الحال والماضي والمستقبل، مستند إلى إمداد الله العلي العظيم.
وصلّى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم : زاده الله تعالى تقريبا وأمانا وسلاما، وزاد معه آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، ولا يدخل أحد حضرة الأحباب حتى يعظّم آل النبي، وأصحابه معا.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ : فهو الذي لا يحصي الثناء عليه أحد، ولا يليق به إلا ما وصف به ذاته العلية.
وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ: وهكذا جعل الله تعالى الأمان والسلامة في طريق المرسلين، وختمهم بسيدهم وتاج رفعتهم محمد، صلى الله عليه وعليهم وسلم تسليما كثيرا.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ : والثناء والمدح أولا وآخرا له تبارك وتعالى.
أعلى الصفحة