الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Symposia الندوات
 
لغة التصوُّف والفلسفة بين التباين المعنوي والاشتراك اللفظي
الندوة الدولية في النصوص الدينية والفلسفية: إعادة قراءة والفهم والإدراك في القرن الحادي والعشرين
تركيا - استانبول
(21-20)/2011/10
 
تمهيد:
لو قدِّرَ للتصوف أن يجتمع مع الفلسفة فإنه يجتمع معه في أحدِ أمرين:
- غاية معرفة الكون وأسرار الحياة.
- الاشتراك اللفظي في بعض الاصطلاحاتِ مع الاختلاف في مضموناتها.
فغاية الفلسفة الكبرى محاولة بناء تصورٍ ورؤيةٍ شمولية للكون والحياة.
أما غاية التصوف الكبرى فهي معرفة الله، ويتفرع عن هذه المعرفة كنتيجةٍ من نتائجها معرفة أسرار الكون والحياة.
وتتباين الأدوات والوسائل والماهيات تباينا تاما بين التصوف والفلسفة كما سيأتي في البحث.
أما الاشتراك اللفظي في بعض الاصطلاحاتِ فلا غضاضة فيه، لأنه حاصل في كل العلوم، فلفظ (الفِقْهِ) عند اللغويين يختلف في دلالته عنه عند علماء الأحكام الشرعية العملية، ولفظ (السُنَّةِ) عندَ أهل الحديث يختلف في دلالته عنه عند علماء اللغة ويختلف أيضا عنه عند علماء الأحكام الشرعية العملية، ولفظُ (الوجود) أو (العدم) يختلف في دلالته عند المعتزلة عنه عند الفلاسفة وعنه عند المتكلمين من أهل السنّة وعنه عند الصوفية.
وما حصل الوهم عند بعض الباحثين إلا من الخلط في الدلالات، وعدمِ إدراك الاشتراك اللفظي المجرَّد مع الاختلاف في معاني الألفاظ.
وهذا البحث يسلطُ الضوء على تاريخ التصوف وكنهه ووسائله وكبار أعلامه تمهيدا للوصول إلى نتيجة تباينه واختلافِ طبيعته عن الفلسفة، ومواطن الاشتراكات اللفظية بينهما.

1- التصوف الإسلامي في مبتدأ تاريخه ووصفه:
التصوُّف كما ينعته رجاله هو وصفُ السابقين المقرَّبين من عباد الله تعالى، فما من نبيٍّ أو رسولٍ إلا والتصوف حالٌ له، لأنه مقام الإحسان الذي هو عبادة الله تعالى بحالِ من يكون كأنه يراه.
وكانَ سلوكًا وحالًا في أصحابِ النبي مستمَدًّا عنه  وفي التابعين والسلف الصالح كما قرَّر ابن خلدون في مقدمته، أما في الاختصاص باسمِ التصوفِ فإن ابن خلدون يذهب إلى أنه لما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختُصَّ المقبلون على العبادة باسم الصوفية. اهـ.
ويشهد لقوله أنَّ الله تعالى قد أثنى على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ووصف مُتَّبِعَهُم بالإحسان، والتصوف هو مقام الإحسان، فإذا كان المتَّبِعُ محسنا فكيف لا يكون المتَّبَعُ من باب الأولى مُحسِنا؟ قال تعالى:
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}]التوبة: 100[.
وقال أبو القاسم الجنيد رحمه الله: أشرف كلمة في التوحيد قولُ أبي بكرٍ رضي الله عنه "سبحان من لم يجعل للخلق طريقًا إلى معرفته إلا العجزَ عن معرفته"، وهذا الكلام من نفائس التصوف.
وكانَ أميرُ المؤمنين عمرُ رضي الله عنه مُلهَمَ القلبِ محَدَّثا وشهِدَ له المصطفى صلوات الله وسلامه عليه بذلك، والإلهامُ باب من أبواب التصوف معتبرٌ عندَ أهله، وإن لم يكن معتبرا عند علماء الكلام.
وكان عثمانُ بن عفّان رضي الله عنه مخصَّصًا بالتمكين والثبات والتوكُّل، فإنه يوم قتل لم يبرح عن موضعه، ولم يأذنْ لأحدٍ بالقتال، والتمكين والثبات والتوكُّل من أنفسِ الأحوال عند الصوفية.
وكان علي رضي الله عنه سبّاقا في المحبّة، وشهد له بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، والمحبة من مقامات النهاياتِ الكمالية عند الصوفية.

2- التصوف من القرن الثاني الهجري إلى القرن الرابع في المنظور البحثي:
أجمع الدارسون للتصوف على التزام صوفية القرن الثاني الهجري بقواعد الشريعة الإسلامية.
وكيف لا يكون الأمر كذلك وأئمتهم هم أعلام الدين والورع والزهد كطاووس بن كيسان ومحمد بن سيرين، ومالك بن دينار ومحمد بن سوقة وسفيان الثوري
وإبراهيم بن أدهم وحمّاد بن زيد وشقيق البلخي وسفيان بن عيينة، وقد عدّهم في أولياء الصوفية أبو نعيم الأصفهاني في حليته.
لكنَّ الدارسين للتصوف يعتبرونَ أنَّ الغالبَ على أصحاب هذا القرنِ الزهدُ وشدّةُ الورع، وأنَّ التصوف لم تتبلور صورته واصطلاحاته إلا في القرنين الثالث والرابع الهجريين.
وهاهنا يفترق محققو البحث عن المستشرقين ومتَّبعيهم.
فالمحققون يُجمعون على التزام أعيان هذين القرنين بروح الدين وحقائقه مع المحافظة على الصورة الشرعية التي بيّنها الكتاب والسنّة.
ويذهب أكثرُ المستشرقين مثل نيكلسون و بعضُ من لم يُعايشِ التصوف سلوكا وذوقا في البيئة الأكاديمية إلى أنَّ التصوف دخل خلال القرن الثالث الهجري دورًا جديدًا، بعدما طغت عليه اتجاهات فلسفية بعيدة عن الإسلام، وأنَّ أصحابَه أوشكوا على التحلل من الأوامر الدينية .
بل إن بعض المعاصرين كـ ولتر ستيس أوغل في كتابه (التصوف والفلسفة) في التخبّط إلى درجة جعل فيها مراتبَ التصوف درجاتٍ في الفلسفة، وتأملاتِ الفلسفة درجاتٍ في التصوف، طبعا بعدما جرّد التصوف من أي هوية دينية، وجعل التصوف اتحادا مع الذات العلية، استمدادا من فهمه المسيحي، الذي يتعارض مع ثوابت العقيدة الإسلامية وأساسيات التصوف الإسلامي، وهو يتماشى من حيث النهاية مع المصنوع الغربي الحديث المسمى (التصوف الكوني) الذي يُسوَّقُ له، ليلغيَ في النهاية الشريعة الإسلامية.
ومن العجيبِ المؤسف أنَّ ولتر ستيس كان يتساءل عن إمكانية حصول التجربة الصوفية بالمخدرات والعقاقير!!
وما ذهب المستشرقون فيما أشرت إليه قبل قليل خاطئ، لأن من تتبع سيرة أعيان الصوفية في القرنينِ الثالث والرابع المذكورين يدرك أنهم كانوا أئمةَ الدينِ وصفوتَه، وأنَّ اشتغالهم بالعلوم المختلفة واختياراتهم لاصطلاحات التصوف قد أنتج علمَ الركن الديني الثالث الذي هو الركنُ الشعوري الشهودي الذوقي من أركان الدين، ولم يلغِ ما معه من الركنين الآخرين (العقَدي، والسلوكي).

ومن أبرز أعيانِ الصوفية في القرن الثالث الهجري:
- بشر الحافي الذي قال فيه الإمام المجتهد أحمد بن حنبل يوم بلغه موته: "لم يكن له نظير".
- والمحاسبي الذي قال فيه صاحب الرسالة القشيرية: "عديم النظير في زمانه علمًا، وورعًا، ومعاملة" وهو القائل: "من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين ظاهره بالمجاهدة وإتباع السُّنَّة"، والمعنى: من تصوَّف في باطنه سوف يتمسك في ظاهره بالشريعة الإسلامية.
- وذو النون المصري القائل: "مدار الكلام على أربع: حبُّ الجليل، وبغض القليل، وإتِّباع التنـزيل، وخوف التحويل" والقائل: "من علامات المحبِّ لله عزَّ وجلَّ متابعةُ حبيبِ الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه، وأفعاله، وأوامره، وسننه".
- ويحيى بن معاذ القائل: "لا تستبطئ الإجابة وقد سدَدْت طرقاتها بالذنوب"، وهو بهذا يخاطِب من يرفع يديه بالدعاء إلى الله تعالى حال تلطّخه بالذنوب ويقول له: تب واخرج عن ذنوبك حتى يستجيب الله تعالى لك.
- و أبو يزيد البسطامي القائل: "لو نظرتم إلى رجل أُعطي من الكرامات حتى يُرفَع في الهواء، فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود، وأداء الشريعة".
- وسهل بن عبد الله التُّستَريّ القائل: "أصولنا ستة أشياء" وعدَّ من أولها "التمسك بكتاب الله تعالى والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
- وأبو القاسم الجنيد البغدادي القائل: "الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول، واتبع سنَّتَه، ولزم طريقته، فإن طريق الخيرات كلها مفتوحة عليه".
وما تقدم من نُقولٍ يَردُّ مزاعمَ الزاعمين بِبُعدِ أمثال هؤلاء الأعيان عن روح الشريعة وصُورتها البهية.
ومن أبرز أعيانِ الصوفية في القرن الرابع الهجري:
- أبو بكر الشبلي وهو المتمسك بدقائق تفصيلات السنة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، حتى قال فيه خادمه جعفر بن نصير الدينوري وهو يبكيه: "ما تقولون في رجلٍ لم يَفُتْهُ في آخر عمره أدبٌ من آداب الشريعة؟"
- وأبو علي الروذباري وكان يقول (فيمن يعافس الملاهي قائلا: أبيح لي الوصول إلى منزلة لا تتأثر فيها أحوالي) يقول: نعم وصل ولكن إلى سقر.
- وأبو يعقوب النهرجوريوكان يقول: الحق تعالى غير مفقود فيطلب، ولا له غاية فيدرك.
- وأبو الحسن البوسنجي، وقد سئل عن الفتوة فقال: حسنُ المراعاة، ودوام المراقبة.
- ومحمد بن خفيف وقد سئل عن السُكْرِ فقال: غليان القلب عند معارضات ذكر المحبوب، وقال: المشاهدة اطلاع القلوب بصفاء اليقين إلى ما أخبر الحقُّ من الغيوب.
وهذه الأمثلة من النقول في القرن الرابع تزيد تأكيد الحقيقة الذي ذهبنا إلى إيرادها ردا على مزاعم الزاعمين بخروج أمثال هؤلاء الأئمة عن أوامر الدين.
وأقرانهم وأمثالهم يشتركون معهم في الحال والوصف.
فتصوف القرنين الثالث والرابع الهجريين كان منضبطًا بضوابط الكتاب والسنة وموازينهما.
وقد لخص أبو القاسم الجنيد هذه الحقيقة بقوله: "مذهبنا هذا: مقيَّد بأصول الكتاب والسنَّة".
ولا يُعتدُّ بأيِّ واقعةِ حالٍ في مُستغرقٍ ناقصِ الحال، فإنَّ الصوفية كانوا إذا رأوا مستغرقًا أذهله الذكرُ عن الكونِ وأفقده شعوره به يعتنون بحاله، ويردُّونه إلى صحوه.
فقد دخل الشبليُّ (في بداياته) على الجنيد في بيته، وكانت زوجة الجنيد مكشوفةَ الرأس، فهمَّتْ أن تغطي رأسها امتثالًا لأمر الشريعة لها بستر شعرها أمام الرجال، فقال لها الجنيد: لا عليكِ، ليس هو هناك (أي هو غائب عن الإحساس بالكون).
فلم يزل يكلِّمُه الجنيد، حتى بكى الشبلي، فلما أخذَ الشبلي في البكاء قال الجنيدُ لامرأته: استتري، فقد أفاق الشبلي من غيبته.
ومن أحسنِ من وثّق نقول التصوف للمراحل السابقة:
- أبو النصر عبد الله بن علي السرّاج الطوسي المتوفى سنة 378 هـ في كتابه اللمع.
- أبو بكر محمد بن اسحق البخاري الكلاباذي المتوفى سنة 380 هـ في كتابه التعرّف على مذهب أهل التصوف.
- أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي المتوفى سنة 412 هـ في كتابه الطبقات.
- أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني المتوفى سنة 430 هـ. في حلية الأولياء.
- أبو القاسم عبد الكريم القشيري، المتوفى 465 هـ، في الرسالة القشيرية.

3- الفوارق الكبرى بين الفلسفة والتصوف:
أظنُّ أنَّ الإشكال الذي دخل على المستشرقين قد دخل من الاشتراك بين الفلسفة والتصوف في غاية قراءة الكون، وفاتهم أنَّ قراءة الكون الاستدلالية التأملية تختلف عن قراءته بالله تعرّفا وتعريفا، ومن أهم الفوارق بين التصوف والفلسفة ما يأتي:
1. الطريقُ إلى الفلسفة الاكتسابُ الذهني العقلي بالقراءة أو التفكّر أو سماعِ الأساتذة.
أما الطريق إلى التصوف فهو الاكتسابُ الروحيّ النورانيّ بالذكر والاستقامة والتعرضِ لنفحات الله مع مراعاة اصطحاب خصوصية الزمان والمكان والأشخاص.
2. أداةُ الفلسفة العقل، وأداة التصوف القلبُ والروح.
3. مقدماتُ الفلسفة تنبثق عن عالم الحسِّ الـمُلكيّ، ومقدماتُ التصوف تنبثق عن عوالم المعنى الملَكُوتية.
4. الفلسفةُ في الغالب مجردةٌ عن العاطفة، والتصوف ممزوجٌ بالمحبةِ والوجد.
5. قراءةُ الفلسفة للحياة استدلالية بالكون، من باب الاستدلال بالظلِّ على الشمس، وقراءةُ التصوف للكون بمكِّونه، من باب: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا}[الفرقان:45] أي على الظلّ، والإشارة بالظلِّ إلى الكون، وباب: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}[العلق:1].
ولطالما عاب الصوفية على أصحاب الاستدلال العقلي المجرد منهجهم.
يقول مولانا جلال الدين الرومي:
"لو كان العقل بصيرا في هذا الطريق لكان الفخرُ الرازي صاحب سرِّ الدين"
والفخرُ كما هو معلومٌ إمامٌ كبيرٌ من أئمة المدرسة العقلية.
ويقول أيضًا:
"برغم أن العقل صاحب الصدارة وعالمٌ نحريرٌ فإن رداءه وعمامته صارا رهنًا عند كأس العشق".
وهو بهذا يقرر تفوقَ المعرفة الإحسانية بعشقها ومحبتها على علوم العقل.
ويقول:
"بينما ما يزال العقل يطلب راحلته للحج مضى العشق منذ وقت إلى جبل الصفا".
وهو يشير بــ (الراحلة) إلى الأدلة التي يبحثُ العقل عنها في طريق المعرفة الاكتسابية، ويبين أنَّ سفر الروح في معرفة الله أسرعُ وأقربُ.
بل إنَّه سخِرَ من الواقفينَ مع أدلَّة الحسِّ، المعرضين عن مواهب الروح بأسلوبٍ ذكيٍّ في قوله:
"عيسى ابن مريم , مضى إلى السماء , وحماره بقي في الأسفل"
واختياره لعيسى عليه السلام راجعٌ إلى وصف الله تعالى له بأنه روح، واختياره لمثال الحمار دالٌّ على بهيمية الجسد ونقصان منزلة الحسّ المادّي المجرّد.
نعم قرأ مولانا الرومي الكون، وعبّر عن مشاهده في السماء والأرض والشجر والحيوان.... الخ، لكنها كانت قراءةَ العاشقِ الذي رأى آثار معشوقه، ولم تكن قراءة الأعمى الذي يستدلُّ على طريقه بالعكّاز.
ومن هذا المنحى ما قاله أبو العباس بنُ مَسروق: "من لم يَحتَرِز بعقله، من عقله، لعقله، هلك بعقله".
فكان يذهب إلى أنّ العقل لا يصلحُ أن يكون أداة لمعرفة الحقيقة المطلقة وذوق الاستغراق في شهودها.
و يقول يحيى بن معاذ: "لا تعرفه حتى تعمى عن الخلق"، أي لا أمل بتحصيل معرفة الله إلا بالتفات القلب عن الكون طلبا للحق.
وقال قائلهم:
"كُلُّ صبٍّ طوى الأدلَّة مِلْ لَهْ " أي كن صاحبا لمن هجر الأدلة العقلية المجردة.
وسئل أبو الحسين النوري: بم عرفت الله تعالى؟ فقال: بالله، قيل: فما بال العقل؟ قال: العقل عاجزٌ لا يدلُّ إلا على عاجزٍ مثله.
فكان يرى قصور المعرفة العقلية المجردة.
ويشترط أبو يزيد البسطامي للكلام على الحقائق الأزلية نورًا يتزود به المتكلم، وذلك بقوله: "من تكلم في الأزل يحتاج أن يكون معه سراج الأزل".
ويشهد لقوله هذا ما نُقِلَ عن أبي العباس بن سريج الذي كان فقيه وقته علمًا ولغةً وفهمًا، فلما مرَّ بمجلس الجنيد وسمع كلامه، لم يقدِرْ على فهمه مع سعة علمه، ولما سألوه: "ما تقول في هذا الكلام؟ قال: لا أدري ما يقول، ولكنّي أرى لهذا الكلام صولةً ليست بصولة مبطل"، فكلامُ الجنيد لقي في قلبه القبولَ ولكنه مع سعة علمه كان قاصرا عن استيعابه لعدم بلوغه منزلته.
وقد شنَّ الإمام الصوفي المجدِّدُ أبو حامد الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) هجوما عنيفا على الرؤى الفلسفية للفلاسفة المسلمين الذين كان يتصدرهم ابن رشد، ورد عليه لاحقا ابن رشد في كتابه (تهافت التهافت).
وقارن الغزالي بين عامة المسلمين والمتكلمين بقواعد المنطق والفلسفة فقال:
"فقس عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين، فترى اعتقادَ العاميّ في الثبات كالطَوْد الشامخ لا تحركه الدواهي والصواعق، وعقيدةَ المتكلم الحارسِ اعتقادَه بتقسيمات الجدل كخيط مرسل في الهواء، تفيئه الرياح مرة هكذا ومرة هكذا".
فكان لا يقارن بين أعيان الصوفية والفلاسفة أو المتكلمين بل بين العامة وهؤلاء، وهو أبلغ في استبعاد الفلسفة.
4- نماذج من صوفية جمعوا التصوف ومصطلح الفلسفة:
• دور الغزالي التجديدي في القرن الخامس الهجري:
لم يكن أبو حامد الغزالي مجرّدَ مُدافِعٍ عن التصوف والعقيدة في وجه الفلسفة، لكنّه أعاد بحقّ تلخيصَ الخطوطِ العريضة الصوفية، وأظهر في (إحيائه) المنهجَ الوسطي الذي تتميز به هذه الأمة بين الإفراط والتفريط في كلّ شيء.
فبيَّنَ مكانةَ العلم حتى لا يُهمله المتصوفة أو يزهدوا فيه، والمحمودَ والمذمومَ من العُلوم بعدما ضَعُفَ تمييز الناس بينهما، وذكر آدابَ العلم، وآفاتِه، وأشار إلى شرف العقل الذي محلّه القلبُ، وتفاوتَ الناس فيه، وذكر قواعد العقائد الإسلامية بإيجاز غير مخلّ، وأنها مستمدّة من الكتاب والسنة، وأنَّ القرآن الكريم هو الأصلُ الموجّه للعقول.
وأفرد الغزالي للعبادات في الإحياء رُبعا، فبيَّن أسرار الطهارة والصلاة، وعملَ القلبِ والجوارحِ فيهما، وذكر مثل ذلك في الزكاة، والصوم، والحجّ، وتلاوةِ القرآن، والذكرِ، والدعاءِ، وفصّل في ربع العادات آداب الطعامِ والنِّكاحِ والتكسُّبِ للمعاشِ وحلالَها وحرامَها، وآدابَ الأُلفة والصحبة، أو العزلةِ والخلوةِ، وآدابَ السفر، وآدابَ السماعِ والوجد، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخلاقَ الاجتماعية والمعيشية، وبيّن في ربع المهلكات تَسلُّطَ الشيطان على القلب، وتغيُّرَه وتقلُّبَه، ووسيلةَ معالجة مرضه، وخطرَ شهواتِ النفس، ووسائل َكسرها، وآفاتِ اللسان، ومعالجتها، وخطرَ الغضب والحسدِ، والتعلقِ بالدنيا والشهرةِ والجاهِ، وذمَّ الكبرِ والعُجبِ والغرور، ثم ختم بربع المنجيات فذكر التوبة، والصبر والشكر، والخوف والرجاء، والفقر والزهد، والتوحيد والتوكل، والمحبة والشوق والرضا، والنية والإخلاص والصدق، والمراقبة والمحاسبة.
فكان في تصنيفه هذا مرتِّبا لقضايا التصوف المتفرقة، ومذكِّرًا بوسطية المنهج في مبحث العادات، ومبيِّنًا في مبحث المهلكات الآفاتِ التي تُخرجُ المتصوف عن طريق السلامة، ودالًّا في ربع المنجيات على طريقٍ متَّفَقٍ على سلامتها في الأمة.
وكانت لغتُه في أبواب التوحيد والعقائد فلسفيةً لكنها تعالج الموضوعات بطريقة ميسَّرة مقبولة عموما عند الناس ومن نماذجها:
- قوله: "فإن قلت: فكيف الجمع بين التوحيد والشرع: ومعنى التوحيد: أن لا فاعل إلا الله تعالى؛ ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد؛ فإن كان العبد فاعلًا فكيف يكون الله تعالى فاعلًا؟ وإن كان الله تعالى فكيف يكون العبد فاعلًا؟ ومفعول بين فاعلين غير مفهوم؟ فأقول: نعم ذلك غير مفهوم إذا كان للفاعل معنى واحد، وإن كان له معنيان ويكون الاسم مجملًا مرددًا بينهما لم يتناقض، كما يقال: قتل الأمير فلانًا، ويقال: قتله الجلاد، ولكن الأمير قاتل بمعنى، والجلاد قاتل بمعنى آخر، فكذلك العبد فاعل بمعنى، والله عز وجل فاعل بمعنى آخر"
- وقوله: "ولمــّا جرى حقيقةُ المعنى على لسان بعض الأعراب قصدًا أو اتفاقًا صدَّقَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أصدقُ بيت قاله الشاعر قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل" ،أي كل ما لا قوام له بنفسه - وإنما قوامه بغيره - فهو باعتبار نفسه باطل، وإنما حقّيته وحقيقته بغيره لا بنفسه، فإذن لا حقَّ بالحقيقة إلا الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء، فإنه قائم بذاته وكلُّ ما سواه قائمٌ بقدرته، فهو الحقُّ وما سواه باطل، ولذلك قال سهل: يا مسكين كان ولم تكن، ويكونُ ولا تكون، فلمّا كنتَ اليوم صرتَ تقول: أنا وأنا، كن الآن كما لم تكن فإنه اليوم كما كان".
وملاحظٌ أنها لغة يسيرة لا تقترب من تعقيد لغة الفلاسفة.

• محي الدين بن عربي، تطور وزيادة ثراء؟ أم ارتقاء فلسفي ؟:
بدأ الغزالي إحيائه بالعلم ثم بشرف العقل ثم بقواعد العقائد، لينتقل بعدها إلى الأرباع الأربعة العبادات والعادات والمهلكات والمنجيات مبلغا من خلال كتابه رسالة عامة إصلاحية إلى الصوفية خاصة، وإلى الأمة عامة.
لكن ابن عربي جاء بفتوحاته وهو كتابه الأكبر والأكثر شيوعا على نسق أكثر تطورا في اللغة، وأشدَّ تعقيدا في البيان، فهو:
a) لم يخالف الإحياء في المضمون لكنه أتى بمضمونه مُطوَّرا، حيث استعمل لغة الفلسفة تارة (مع مباينته لأفكار أهلها) وحاد عنها في مواضعَ غيرِها تارة أخرى.
b) زاد على مضمون الإحياء بفروعٍ كثيرة جدا في معرفة الكون، ومكوِّنه.
c) لم يعرض في معارفه فروعَ الكونِ المنظورة وأسرارها فقط لكنه تحدّث عن الكونِ المعنويّ غير المنظور.
d) لم يكن موَّجها للعامة، بل كان مخصَّصًا للطبقة المتعلمة الدارسة من الصوفية الذائقين لأحواله ومعارفه.
e) وجَّه العامة إلى التزام القرآن وتركِ الخوض في لغة الفلسفة خوفا عليهم من التأثر بأفكارهم.
وفي تفصيل ما ذكرته وبيانِ موادّه أقول:
لم يخالف الإحياء فرتّبَ كتابه:
a. في مقابل العلم وشرف العقل: أبوابا في معرفة الحقّ تعالى وأسمائه والروح وحركاتِ العالَم وحروفه وبدء الخلق ومراتبه والكشف والخواطر والإلهام والقيامة والجنة والنار.
b. في مقابل قواعد العقائد: أتى في الباب السابع والستين بالإيمان ومعرفة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
c. في مقابل ربع العبادات: أتى بالطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج.
d. في مقابل ربع المنجيات: ذكر التوبة والمجاهدة والتقوى والورع والزهد والجود والصمت والسهر والخوف والرجاء والحزن والجوع والخشوع والتوكل والشكر واليقين والصبر والمراقبة والرضا والاستقامة والإخلاص والصدق والحياء والذكر والفكر والفتوة والفقر والغنى والأدب والصحبة والمعرفة والمحبة والشوق، لكنه تحدث عن خصوصية أضدادها كترك التوبة والزهد والخوف والرجاء والجوع والصبر والإخلاص والصدق، ولا يشكل هذا فإنني بإيراد نموذج عنها كحديثه عن ترك الصدق يُعلم أن المرادَ التدقيق في خصوصية مقامٍ رفيع، لا التخلصَ من التكاليف، فهو يقول: "الصدق يطلب المماثلة وإن كان محمودا فرجال الله أنِفوا من الاتصاف به مع حكمه فيهم وظهور أثره عليهم غير أنه ليس مشهودا لهم ثم نظروا إليه من كونه نعتًا إلهيًا فلم يجدوا له عينًا هناك ورأوا تعلق الصدق الإلهي إنما هو فيما وَعَدَ لا في كل ما أوعد ومن شرط النعت الإلهي عدم التقييد فيما هو متعلق له فعلموا أنه نعت إضافي لاختصاصه ببعض متعلقاته فلما رأوه على هذا أوجبوا ترك مشاهدته ".
فهو يرى أن من التخلق بأخلاق الرحمن أن لا يَصدُقَ العارف في وعيده وتهديده، فهو يصدق في وعده ولا يصدق في وعيده، انطلاقا من معرفة وجوب إنجاز الوعدِ الإلهي وجواز عدم إنجاز الوعيد الإلهي.
ومن هذا المثال يُعلمُ أنَّ ابن عربي أراد أن يبين تحقيقا إضافيا في المسألة.
e. في مقابل ربع العادات: ذكر السفر والسماع والخلوة والإطعام والأخلاق، لكنه جاء بها منثورة بين الأبواب.
f. في مقابل ربع المهلكات: ذكر الخواطر وشؤون النفس، ومخالفتها، والحسد والغبطة والغيبة والشره والحرص، وغيرها منثورة بين الأبواب أيضا.
g. أورد بعض مسائل السياسة الشرعية عرضا في علاقة السلاطين بالرعية وظلم من يظلم منهم.
h. زاد على الإحياء بإيراد أبوابٍ ذكرها مصنفو التعرف واللمع والرسالة القشيرية، كمقام التصوف والشطح والطوالع واللوائح واللوامع والقبض والبسط والفناء والبقاء والجمع والتفرقة والاصطلام، والتواجد والوجد والوجود، والهيبة والأنس والجلال والجمال والكمال والحضور والسكر والصحو والذوق والشرب والري والمحو والإثبات والوارد والشاهد والشهود.
i. أضاف ما يقل ذكره عادة في كتب التصوف كالكلام على الأقطاب ومنازلهم والخوارق وأحوال الجمادات والبهائم والعوالم العلوية مما لا يندرج إلا في المكاشفات الغيبية.
j. تكلم على حضراتٍ إلهية أسمائية وتجليات ربانية خاصة وأسرار آياتٍ قرآنية.
ثم ختم كتابه بدعاءٍ وقصَّ فيه بعض الرؤى.
والملاحظ أنه يستخدمُ في بعض أبواب كتابه لغةَ الفلاسفة والمتكلمين، لكنه يخالفهم في المضمونات، وما رأيتُ له مسألة يوافقُ فيها ما كفرَ به الفلاسفةُ، ومن نماذج أسلوبه الفلسفي الأمثلة الآتية:
- قوله: "من كان الوجود يلزمه فإنه يستحيل عدمه والكائن ولم يكن يستحيل قدمه"
- وقوله: "من ثبت كماله بالعقل والنص فلا ينسب إليه النقص ثم قال لو لم يبصرك ولم يسمعك لجهل كثيرًا منك ونسبة الجهل إليه محال فلا سبيل إلى نفي هاتين الصفتين عنه بحال".
- وقوله: "القدرة من شرطها الإيجاد إذا ساعدها العلم والإرادة فإياك والعادة كل ما أدى إلى نقص الألوهة فهو مردود ومن جعل في الوجود الحادث ما ليس بمراد الله فهو من المعرفة مطرود".
- وقوله: "افتقار الممكن للواجب بالذات والاستغناء الذاتي للواجب دون الممكن يسمى إلها وتعلقها بنفسها وبحقائق كل محقق وجودًا كان أو عدمًا يسمى علما".
- وقوله: "الجبر لا يصح عند المحقق لكونه ينافي صحة الفعل للعبد فإن الجبر حمل الممكن على الفعل مع وجود الإباية من الممكن".
- وقوله: " امتزجت الحرارة واليبوسة فكان النار والحرارة والرطوبة فكان الهواء والبرودة والرطوبة فكان الماء والبرودة
واليبوسة فكان التراب".
لكنه وإن توافق في الأسلوب يختلف عن الفلاسفة في أداة معرفته، فأدواتهم عقلية تفكرية مجردة، لكنّه يُصرّحُ أنَّ ما كتبه كان بطريق الإلهام والكشف الروحي، ومنه قوله:
- "شتان بين مؤلف يقول حدثني فلان رحمه الله عن فلان رحمه الله وبين من يقول حدثني قلبي عن ربي... فالحمد لله الذي جعلني من أهل الإلقاء والتلقي فنسأله سبحانه أن يجعلنا وإياكم من أهل التداني والترقي".
فأخبر عن أداة معرفته الروحية الإلهامية.
ومع ذلك فإنه يصرِفُ العامّة عن لغة المنطق والفلسفة، وقد يكون ذلك من باب الحرص عليهم من التأثر بضلالاتهم، ومنه قوله:
- "والقرآن العزيز قد ثبت عندنا بالتواتر أنه جاء به شخص ادَّعى أنه رسول من عند الله تعالى، وأنه جاء بما يدل على صدقه وهو هذا القرآن، وأنه ما استطاع أحد على معارضته أصلًا، فقد صحَّ عندنا بالتواتر أنه رسول الله إلينا، وأنه جاء بهذا القرآن الذي بين أيدينا اليوم وأخبر أنه كلام الله تعالى، وثبت هذا كله عندنا تواترًا، فقد ثبت العلم به أنه النبأ الحق والقول الفصل.... وإذا كان الأمر على ما قلناه فيأخذ المتأهب عقيدته من القرآن العزيز وهو بمنزلة الدليل العقلي في الدلالة، إذ هو الصدق الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:42] فلا يحتاج المتأهب مع ثبوت هذا الأصل إلى أدلة العقول"
وابن عربي بهذا ينأى بنفسه عمن يدعو إلى التمهل والانتظار مع وجود أدلة القرآن حتى يقرأ علم الكلام، ويشنُّ النفير عليه بقوله:
- "وإن لم يكن معتقدًا لهذا (أي لأدلة القرآن وحقائقه) حتى ينظر ويقرأ علم الكلام فنعوذ بالله من هذا المذهب، حيث أدَّاه سوء النظر إلى الخروج عن الإيمان، وعلماء هذا العلم رضي الله عنهم ما وضعوه وصنفوا فيه ما صنفوه ليثبتوا في أنفسهم العلم بالله، وإنما وضعوه إرداعًا للخصوم الذين جحدوا الإله، أو الصفات، أو بعض الصفات، أو الرسالة، أو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، أو حدوث العالم.... فمهما برز في ميدان المجادلة بدعيٌّ؛ برز له أشعريّ أو من كان من أصحاب علم النظر... حرصًا على أن يردّوا واحدًا إلى الإيمان والانتظام في سلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالبرهان.... فالبرهان عندهم قائم مقام تلك المعجزة في حق من عرف، والراجع بالبرهان أصح إسلامًا من الراجع بالسيف، فإن الخوف يمكن أن يحمله على النفاق وصاحب البرهان ليس كذلك".
ويعرضُ ابن عربي أمثلة على العقائد بدون دليل عقلي بقوله:
- "نزّه سبحانه نفسه أن يشبهه شيء من المخلوقات أو يشبه شيئًا بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11] و{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الصافات:180]. وأثبت رؤيته في الدار الآخرة بظاهر قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:22-23] و{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، وانتفت الإحاطة بدركه بقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}[الأنعام:103] وثبت كونه قادرًا بقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[المائدة:120] وثبت كونه عالمًا بقوله: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق:12] وثبت كونه مريدًا بقوله: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}[البروج:16] وثبت كونه سميعًا بقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ}[المجادلة:1] وثبت كونه بصيرًا بقوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}[العلق:14]. وثبت كونه متكلمًا بقوله: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء:164] وثبت كونه حيًا بقوله: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[البقرة: 255] وثبت إرسال الرسل بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِي}[النحل:43] وثبتت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ}[الفتح:29] وثبت أنه آخر الأنبياء بقوله: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}[الأحزاب:40] وثبت أن كل ما سواه خلق له بقوله:{اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]... وثبت حشر الأجساد بقوله:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}[طه:55] إلى أمثال هذا مما تحتاج إليه العقائد من الحشر والنشر والقضاء والقدر والجنة والنار والقبر والميزان والحوض والصراط والحساب والصحف، وكل ما لا بدَّ للمعتقد أن يعتقده..." ثم قال: "ففي القرآن العزيز للعاقل غنية كبيرة، ولصاحب الداء العضال دواء وشفاء كما قال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء: 82] ومقنع شاف لمن عزم على طريق النجاة ورغب في سمو الدرجات".
فهو يدعو العامة إلى القرآن، ولا ينكر على الذين استعملوا الفلسفة للرد على من انحرف فيها.

• لغة الفلسفة في كلام إمام مدرسة الإشراق الصوفي السهرورديالحلبي الشهيد:
من أسباب كفر الفلاسفة في المنظور العقدي الإسلامي قولهم بقدم العالم لأنهم يقولون بقدم المادة قبل حدوث صور العالم، ويسمون تلك المادة (الهيولى والعدم)، فالعدم أو الهيولى أو مادة العالم عندهم هي قديمة قبل الصور ووافقهم المعتزلة موافقة ليست صريحة ولكنها التزامية بقولهم: المعدوم الممكن قبل وجوده شيء وذات ومتقرر في نفسه في الخارج، ورد أبو الحسنِ الأشعري عليهم بقوله الشهير: "الوجود عين الموجود".
علما أن الإمام السيوطي يذهب في الحاوي إلى تحريم الاشتغال بالمنطق خوفا من القول بقدم هيولى العالم فقال: "فن المنطق فن خبيثٌ مذمومٌ يحرُمُ الاشتغال به لبناءِ بعضِ ما فيه على القول بالهيولى الذي هو كفر يجر إلى الفلسفة والزندقة".
لكنَّ السُهروردي وهو يذكر في كتبه الهيولى يقرر حدوثها لا قدمها، وتلازُمها مع صور العالم المخلوقة، ومنه قوله:
"الهيولى لا يتصور وجودها دون صورة".
وقوله: "فلا إمكان لتجرد الهيولى عن صورة مخصصة" وقوله: "بلى يجوز أن يكون شيئان وجودُ أحدهما مع الآخر ضرورةً كالمتضايفين... فالهيولى والصورة وجودهما عن فاعل خارج".
ويقرر السهرورديُّ أنَّ "وجود الوجود هو فيوافق بذلك مذهب الأشعريِّ بأنَّ الوجودَ عينُ الموجود.
ويقول مبيِّنًا مذهبه في العدم: " العدم ليس له حقيقة محصلة، بل هو عبارة عن اللاوجود" فيخالف بذلك المعتزلة والفلاسفة الذين ذهبوا إلى أن العدم شيء متقرر في نفسه.
ويؤكد السهرورديُّ في هياكل النور مذهبه المطابق لما عليه الجمهور في الروح، أنها حادثةٌ كالبدن لا قديمة، وأنها ليست الباري جلَّ وعزَّ، وليست جزءًا منه.
ومعلومٌ أنّ العلّة عند كفار الفلاسفة هي فاعل من غير اختيار، لكنَّ السهروردي يشرح العلة بمثال النجّار، الفاعل بالاختيار، فيظهر من كل ذلك أنه يستخدم اصطلاحا خاصّا به يوافق مضمونه أهل السنّة، وإن اشترك لفظا مع الفلاسفة.
لئن كان السهروردي زاهدا في الخلق، معرضا عن اعتبارهم، فإنه كان مع ذلك جامعًا بين الشوق إلى الحقيقة، والتشوف إلى كمال التلبس بالشريعة، وهو القائل:
فإلى لقاكم نفسه مرتاحة وإلى رضاكم طرفه طماح
أي لا ترتاح لطيفته الروحانية إلا بالانجذاب والاستغراق في شهود حضرة محبوبه الأحدية الحقِّية الإطلاقية، ولا يتطلع بصره وحواسه ولا يطمح إلا إلى محل رضا هذا المحبوب وهو مراداته الشرعية، فهو بباطنه يرتاح بالحقيقة، وهو بظاهره يرنو ويتطلع إلى الشريعة.
والخلاصةُ أنَّ السهروردي الشهيد نموذجٌ صوفيٌّ فريد، اشترك مع الفلاسفة في بعض ألفاظهم، وخالفهم في معانيها، وقد أخطأ من قرأه قراءة توحّد مضمون اصطلاحاته مع دلالاتها عند الفلاسفة.
ومقابلة أهل الفقه له في زمانه بفتوى الزندقة، كانت برأيي قصورا منهم، فكان ضحية استعجال الخصوم، وقصورهم عن لغته، وقد أفتى ابن حجر الهيثمي رحمه الله فيما بعد بتحريم الفتوى في نصٍّ لا يعرف المفتي دلالاته.

7- وأخيرا هجر الصوفية لغة الفلسفة:
بدأ هجران الصوفية للغة الفلسفة بدءًا من القرن السادس، حين تصدّى أعيانهم للإصلاح العملي، كالشيخين عبد القادر الجيلاني، وأحمد الرفاعي رحمهما الله، لكنهما لم يكونا معتنيين بالتصنيف إنما كان التلامذة يكتبون ما يرتجلونه في مجالسهم، أما الذي دوّن في هذا القرن فكان أبو النجيب السهروردي في كتابه (عوارف المعارف) وابتعد عن اللغة الفلسفية في كتابه ذاك.
ودرج على هذا المنهج من بعدهما في القرن السابع الشيخُ أبو الحسنِ الشاذلي رحمه الله، ومن جاء بعده من مدرسته، وأبرز المصنفين في مدرسته أحمد بن عطاء الله السكندري الذي كتب حكمه العطائية، فكانت كالدستور السلوكي للصوفية، ويلتحق بمدرسته العلامة أحمد زروق محتسب العلماء، وواضع كتاب قواعد التصوف النفيس.
ومن أبرز من دوّنَ في القرن السابعِ من أعيان التصوف مولانا جلال الدين الرومي رحمه الله الذي كان له موقف عدائي من الفلسفة وأهلها، وغلب على مدوّناته النثرية والشعرية أسلوب الرواية القصصية، وجماليات الأسلوب الشعري، وقد تقدمت نماذجُ كثيرة من بيانه في هذا البحث.
وجاء مجدد الألف الثاني الإمام السرهندي، ليؤكّد الموقف بصراحة وصرامة في (مكتوباته) إلى درجة دعا فيها إلى الاكتفاء بالفتوحات المدنية (مشيرا بذلك إلى أحاديث المصطفى) بدلا عن الفتوحات المكية للشيخ ابن عربي، ولا أظنّ أنه كان يعادي مضمون الفتوحات المكية، لكنّه أراد صرف تلامذته عن اللغة الفلسفية تماما.
وما يزال الباحثون إلى يومنا هذا في تخبط بين من يقرر وحدة المضمون من بداية التصوف إلى عصرنا هذا وإن عرضَ الاشتراك اللفظي مع الاصطلاح الفلسفي، وأنا أميل إلى هذا المذهب باعتباري باحثا صوفيّ الذوق والمشرب، وبين من يتهم المتكلمينَ بالأسلوب الفلسفي قديما بأنهم اشتركوا مع الفلاسفة في الدلالات والمضمونات، ويُحمّلُ أولئك الأعلام الأخيار ما يتبرؤون منه كالقول بوحدة الوجود بمفهومها الفلسفي لا الصوفي، والقول بالحلول أو الاتحاد، وأنا أرى خطأ هذا الاتجاه، لاسيما أنّ هذا الاتجاه لا يأتي إلا من الوسط الأكاديمي البعيد في الغالب عن معاناة التصوّف وأذواقه.
هذه نتيجة بحثي. إن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وإن أصبتُ فمن توفيق الله، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
أعلى الصفحة