الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Symposia الندوات
 
أزمات الشعر وتحدياته المعاصرة
مهرجان مُلْتَقَى النِّيلين للشعِّر العربيِّ بالخرطوم
الخرطوم - السودان
8-13/5/2011
 
تمهيد
للشعر مكانته في جذورنا الحضارية العربية، وإن شئت فقل في تكوين الشخصية العربية باعتبار الاندماجية بين النفس ولغتها.
فهل انحدرَ تأثير الشعرِ العربي المعاصرِ في عهد العولمة والحداثة وما بعد الحداثة لفقدنا هويتنا العربية لغة وخلقًا وتكوينا؟
أو لتراجعِ التداولِ اللغوي العربي أصلاً في مجتمعاتٍ تنتمي إلى العروبة نسبًا وتغتربُ لغة وثقافة؟
أو لمكر الليل والنهار الذي يبذلُ قصارى جهده لتكوين شخصياتٍ جديدةٍ ممسوخةِ اللغة والثقافة والتكوين، مقطوعة الصلة بالحضارة العربية الإسلامية التي رفع قواعدها الإسلام؟
أسئلة كثيرة تتزاحمُ في أوراق البحوثِ مختصَرها أننا نعاني من أزمة لغوية وحضارية وثقافية، وليس ضعفُ التأثير الشعري في شعوبنا العربية إلا مظهرًا من مظاهر هذه الأزمة.
أولا- تأثير الشعر قديما في العربي:
كان باعث العربي في الجاهلية لقدوم الأسواق سماعَ الشعر أو عرضَه قبل أن يكون للبيع والشراء، وكانت أسواق عكاظ ذي ومجنة وذي المجاز شاهدًا على ما نذكر، وكان الشاعر قادرًا على تغيير الاستعدادات النفسية، كما غير في قبيلة أنف الناقة شاعرُهم خنوعَهم وذلَّهم، فصاروا يتصدرون المجالسَ ويتسابقون في المبادرة بعدما قال فيهم:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهُمُ
ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا

فرفع معنوياتهم وتخلصوا من عقدة اسمهم ذاك.
وفي المقابل حطَّ جريرُ من معنوياتِ بني نُمَير النفسية بعدما قال في أحدهم:

فغض الطرف إنك من نميرٍ

فلا كعباً بلغت و لا كلابـاً

حتى صاروا ينتسبون إلى "عامر بن صعصعة"، بدلا من "نمير"

وكان الشاعرُ "مسكينُ الدرامي" سببَ نفاقِ السلعةِ التجارية بعدما أنشد:

قل للمليحة بالخمار الأسود ماذا فعلتِ بناسكٍ متعبــــد
قد كان شمــر للصلاة ثيابه حتى وقفت له بباب المسجــد
ردي عليه صلاته وصيامه لا تقتليه بحق دين محمــــد




فباع التاجر المستعين به كل خمارٍ أسودَ في بضاعته.
والأمثلة على تأثير الشعر في العرب كثيرة، وليست مقصودَ البحثِ هذا ولكنني أوردتها للتنويه لا للتفصيل.
ثانيا – تضمن الشعرِ العربي الحكمة ومكارم الأخلاق وجذور الحضارة:
تضمن الشعر العربي قديما مضموناتٍ خلقية واجتماعية سامقة، فها هو زهير ابن أبي سلمى يقول في ميميته الكبرى:

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو نال أسباب السماء بسلم
ومن يجعل المعروف في غير أهله يعد حمده ذمـًا عليه ويندم
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تُعلم( )




فتضمنت أبياته المذكورة التقلل من الحرص على الحياة، وتقصير الأمل، ووضع الشيء في محله، وظهور الوصف الإنساني الباطنِ عاجلاً أو آجلاً ولو تعمد صاحبه بقاءه خافيًا.
وقد ورد المضمون الأول المتقدم في شعر النابغة الذبياني( ) في قوله:
المرء يأمل أن يعيش وطولُ عيشٍ قد يضره
تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مُرُّه( )
ومثله قول كعب بن زهير( ) في لاميته الشهيرة:

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته

يوما على آلة حدباء محمول( )

وهي قضايا تندرجُ في عمق التربية الاجتماعية الحميدة.

وهاهو الشاعر الأعشى( ) يحذّرُ اللاعبين من قصدِ تغيير الثوابت، واجتراح المحال بقوله:

كناطحٍ صخرةً يوما ليوهنها

فلم يَضِرْها وأوهى قرنه الوعِل( )

وهي حكمة نفيسة يحتاج إليها التربويون.
وقد دعا شعراء العرب إلى التمرد على من قصد تسييسهم بالخنوع، فكانَ بالمصطلح المعاصر لسان ثورة على الطغيان، فها هو الجاهلي المتلمس جرير بن عبد العزى يقول:

وكنا إذا الجبار صعّر خده


أقمنا له من خده فتقوّما( )

ومثله في المعنى قول عمرو بن كلثوم( ) :
إذا ما المَلكُ سام الناسَ خسفا
أبينا أن نقر الخسف فينا( )

وفي البيتين المتقدمين تقويمُ الحاكم ورفضُ إذلاله.
أما العباسي المولّد بشار بن برد( ) فيقول:
إذا الملك الجبار صعر خده
مشينا إليه بالسيوف نعاتبه( )

وهو أبلغُ في تغيير الاستبداد بالسيف.
ولم يقتصر دور الشعر العربي أمام الملوك والخلفاء على الثناء والمديح والتملق، لكنه تعدّى ذلك إلى الوعظ والإرشاد ومنه قول أبي العتاهية( ) لهارون الرشيد:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تمشي على اليبس

ولما نظر البحتري ( ) إلى انفعال العامة لأهواء الملوك وتحقق المراد الدنيء لصاحب المال والجاه قال:
وكأن الزمان أصبح محمولا هواه مع الأخس الأخس( )

وذم أبو العلاء المعري( ) تسلط الفاسدين على الحكم فقال:

مُلَّ المُقامُ فكم أعاشرُ أمةً أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها وغدوا مصالحها وهم أجراؤها( )



ويقرب منه قول أبي فراس الحمداني( ) في حكام زمانه:
إلى الله أشكو أننا بمنازل
تحكّم في آسادهنَّ كلابُ( )

ودعا أبو الطيبِ المتنبي( ) إلى التحلي بالشجاعة فقال:
ولو أن الحياة تبقى لحي لعددنا أضلنا الشجعانا
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العجز أن تموت جبانا( )



وهكذا كان الشعر العربي ديوانًا حافلاً بالمعاني الفاضلة، مواكبـًا لحركة الواقع، مصاحبًا لمرادات النفوس الأبية، وكان نبض الأمة العربية لاسيما بعدما وجهه الإسلام، وأخرجه من ضياعه وعبثه فيما يضرُّ بالاستقرار البشري بعدما كان يهيم في الفخر والهجاء المعتدي والتجاوز على الأعراض وتحريك النعرات إلى المقاصد السامية الأربعة التي ذكرها في القرآن الكريم وهي:
- ما يزيد البشرية إيمانا.
- وما يلهمها من السلوك الحميد.
- وما يحبب إليها الله تعالى ويدفع عنها الغفلة عن جماله وجلاله.
- وما يخرجها من الذل والخنوع والمهانة والدنية إلى النصر والعزة والمجد.
وذلك بقوله تعالى:
{وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}[الشعراء 224-227]
وهو منطلق من مبدأ الإسلام في التوظيف النافع لكل الوسائل والأدوات المادية والحضارية واللغوية، وهو مقرر بقوله تعالى:
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء/128]
وهو لا يعني أن الإسلام يلغي التشويق والجمال والإبداع، فهي من بدهياته، ولكنه في النتيجة وفي فضاء الشعر يدعو إلى التفاعل الشعوري الجميل المبدع الهادف، الذي ينتج في نهاية المطاف آثارا عملية تصبُّ في بناء الإنسان، وتكوين نفسه وروحه وعواطفه وسلوكه.
وواهم من تصور أن الإسلام يقلل من أهمية الشعر حين يصف النبي الكريم بقوله:
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ}[يس/69]
لأنه في هذا كان يفرقُ بين الكلام القرآني الذي نطقت به شفتا المصطفى عن وحي رباني، لا عن شعور وإبداعٍ بشري، والشعرِ الذي ينبعث عن العاطفة البشرية والإبداعِ الجمالي الذي يعبر فيه الشعراءُ عن ذواتهم وينطقون فيه بنتائج تكويناتهم الخلقية، التي تندرجُ في عموم جمال خلق الله:
{ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان/11]
والشعر في عقيدة أهل السنة والجماعة هو من خلق الله تعالى الذي أبدعه على ألسنة خلقه.
ولو أن الإسلام يقلل من أهمية الشعر فلماذا ينصب النبي الكريم منبرًا في مسجده الشريف له يعتليه حسان بن ثابت، ويدعو الله تعالى له أن يؤيده بروح القدُس( ).
ومع أن هذا الموضوعَ لا يمثلُ عنوان الورقة البحثية هذه لكنه يمثل جانبا من جوانبها التي سنأتي عليها لاحقًا.
ثالثا - أزمة الشعر المعاصر وتحدياته الحاضرة:
لأزمة الشعر المعاصرة جوانب عدة لا بد من تقسيمها تقسيما موضوعيا، حتى تتضح الفكرة ويتبين مقصود البحث، والعناوين في البحث تتلخص في الآتي:
1- الأزمة في جوانبها اللغوية.
2- الأزمة في جوانبها التـربوية.
3- الأزمة في جوانبها الإعلامية.
4- الأزمة في جوانبها السياسية.
5- الأزمة في إطارها العولمي.
6- الأزمة في جوانبها الشاعرية.
ولا بد قبل التفصيل في الأزمات وحلولها من الإجابة عن السؤال الملحِّ في هذا الباب:
هل ينبغي أن تكون للشعر العربي هويته الحضارية العربية الإسلامية، باعتبار كون الحضارة العربية إسلاميةَ الثقافة والتكوين، وباعتبار انعدامِ وجود حضارة عربيةٍ لا إسلامية في تاريخنا المقروء، أم أنَّ علينا في واقعنا الحاضر أن ننسلخ من هذه الهوية الحضارية الإسلامية؟
ويتبعُ هذه الأسئلة أيضا أسئلةٌ ملحةٌ قد يزيل الجوابُ عنها الإيهام.
هل الهوية الحضارية الإسلامية تستوعبُ الألوان البشرية التي لا تعتنق الإسلام؟
وهل تأبى الهوية الحضارية الإسلامية التفاعل مع الثقافاتِ البشريةِ العالمية منغلقة على نفسها في صورٍ محدودة، وأساليبَ مقيدة؟
مما لا شك فيه أن الحضارة الإسلامية بأطيافها الثقافية واللغوية والعلمية تفاعلت في الماضي مع جميع الثقافات، واستوعبت كُلَّ الألوان، لكنها حافظت في تفاعلاتها على ثوابت الفضيلة.
فتبني الشعر العربي الذي قام في الماضي على اللون الوجداني الشعوري وحده للألوان الأخرى الشعرية التي انتشرت في الأمم الأخرى كالشعر القصصي، أو الشعرِ التمثيلي الذي يُنطقُ أشخاصًا ليصل في النتيجة إلى فكرة أو هدف اجتماعي أو تربوي أو سياسي، هذا التبني الجديد لا يتناقض مع ثقافة أمة دعاها الإسلام للشهادة على الأمم كلها، وجعل رسولها شاهدا عليها، ولا يصطدم مع هوية حضارية لأمة دعاها قرآنها إلى النظر والتأمل في الأرض والسماء وما بينهما من الروائع والعجائب.
إذا لا حجة للمخالف حين يتوهم أننا ندعو إلى الانغلاقِ على تراثنا القديم، فثقافتنا انفتاحية بكل ما تعنيه كلمة الانفتاح من دلالات.
ويبقى بعد ذلك أن نتساءل: هل نريد لشعرنا العربي المعاصر أن يحمل هذه الهوية الحضارية العربية الإسلامية، مع اعتبار ما تقدم ذكره؟ أو أننا نصرُّ على العبثية والهيام في كل وادٍ باسم الإبداع والحداثة والتجديد؟
ألا نستطيع إنتاجَ شعرٍ مشَوِّقٍ بديعٍ جميلٍ ساحرٍ في مبناه، آسرٍ في معناه، متطوِّرٍ مع الإنسانِ مهما تطور هذا الإنسان؟
وأنتقل من هذه المقدمة إلى العناوين التي أسلفتُ ذكرها معتمدا فيها الإيجاز، راجيا أن تكون نواةَ بحوثٍ جادة متخصصة، تخرجنا من أزمتنا الحاضرة.
1- الأزمة في جانبها اللغوي:
من المعلوم أن لغتنا العربية لغة ثريةٌ في تكوينها، بديعةٌ في أصولها واشتقاقاتها، متناغمةٌ في تكويناتها اللفظية مع دلالاتها المعنوية، فألفاظها لطيفة في مواطن اللطف، مؤنسةٌ في محل الأنس، جميلة في بساتين الجمال، شديدةٌ في معتركات الشدة، ساحرةٌ ومؤثرة في الشعور الإنساني حينما يحسن الإنسانُ تأليفَ تركيباتها بما يتناسب معه في الزمان والمكان والأشخاص، لكنَّ القصورَ الذي اعترانا في واقعنا الحاضر كان في إهمالِ الترويج لها، وتضييعِ الترويضِ لأبنائها لاستعمالها فصيحةً سليمةً من عبثِ العابثين، فلا صحفنا اليومية معبرةٌ عن بيانها، ولا منابرنا الثقافية والعلمية تعبر بتعبيراتها الصحيحة، ولا وسائل الإعلان أو الإعلام تحترمُ مقامها الشريف، أو تنتهج مناهج تكويناتها الأصيلة، وقد قطعَ أصحابُ الفعلِ في مجتمعاتنا العربية الصلة الوثيقة بين العربِ وروافد لغتهم، فصار القرآن – وهو حافظ اللغة- طقسًا في المناسبات، وأصبحَ التراثُ الأدبيُّ العربي من منسيات الزمان، لا يذكَر إلا في النوادر، فإن ذُكرَ أُتيَ به ملحونا ممسوخًا، كما يحصلُ فيما يسمى مسلسلاتٍ تاريخية، فأنتجَ هذا الإهمالُ والتضييعُ ضياعَ الملكة فيمن ينتسبون إلى العروبة، وزاد الطين بلة ادعاء بعض الجهلةِ قصور لغتنا عن استيعاب ضجيج التقانات ومعادلات البرمجيات، ولو تذكروا ما قاله حافظ( ) رحمه الله لرجعوا إلى أنفسهم بالتأنيب، وهو القائل:
وسعت كتاب الله لفظًا وغاية وما ضقت عن آي به وعظاتِ
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامنٌ فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي( )



فكيف سيستسيغُ أبناء العربِ الشعرَ العربي أو النثرَ، بعدما انفصلوا عن لغتهم، وارتحلوا عن حضارتهم؟
2- الأزمة في جوانبها التربوية:
حين يكون هدفُ التربويين إنشاءَ جيلٍ عربيِّ الانتماء لغةً، عالميِّ الثقافة فكرًا، إنسانيِّ التكوينِ شخصيةً، فلا بُدَّ من منح التربية والتعليم الاهتمام والأولويةَ الكبيرين، ولكنَّ الاختصام على المصالحِ والمكاسب الشخصية والسياسية قلل من العناية بهما، فضلاً عن الالتفات أصلاً عن تعريب الجيل انصياعًا لمقاصد المعولمين، ولذلك رأينا الإعراضَ عن الكتاتيب التي كانت تعلم القرآن والشعر والأدب وهي التي أنتجت في الماضي أساطين العباقرة، ولكن دورها قبيل المدرسة أصبحَ ضعيفًا، واستُوردتْ المناهجُ المدرسية الجديدة التي خرَّبتْ تطويرَ التعليمِ اللغوي، وأثبتت فشلها الذريعَ بعدما وجدنا الطلبة في المدارس الثانوية الشبابية لا يحسنون القراءة أو الكتابة.
ألم يكن شعرُ الشافعي بكل ما فيه من الروعة والحكمة والجمال ناتجَ اندماجه في طفولته بفصاحةِ هذيلٍ وأدبها الرفيع؟
إن الانحراف في ذوقِ شبابنا يرجعُ في جزء من أسبابه إلى الأخطاء التربوية اللغوية المتعمدة أو غير المتعمَّدة، ولا تناقضَ بين التعامل الطفولي مع الوسائل المعاصرةِ، واحتساء الشرابِ اللغوي العربي السلسبيل، لا سيما حين تنشطُ المجامع اللغوية في تعريب المصطلحات، وإنجاز بنوك المعلوماتِ العلمية والثقافية العربية.
لن يستسيغَ الشباب المبهورُ بقوة الماديةِ أدب الضعيفِ حضاريًا، وشعرَه، لأن الماء يهبط من الأرض المرتفعة إلى الأرض المنخفضة، ولكنَّ العناية باللغة في الطفولة والشباب، تفسحُ الفرصةَ لسماع استغاثات المستغيثين الشعرية، واستنجادِ المستنجدين، واستنهاض المستنهضين، فيكون للشعر عندها دورٌ فاعلٌ في تحفيز النهضة وتحريكِ الأجيال إلى الصدارة الحضارية كما حصل في بدء عصر النهضة الحديثة( )، وكان لكثيرٍ من الشعراء والأدباء وقتها الدور الفاعل.
3- الأزمة في جوانبها الإعلامية:
أصبحت – مع الأسف – أولويات الإعلامِ ربحيةً أو سياسية أو خلاعية، فلا تجد للشعر أو الأدب مِساحة واسعة في الإعلام إلا في فُسَحٍ زمنية يعلنُ فيها عن مسابقةٍ محدودةِ الاستيعابِ زمانًا ومكانًا لإظهار شاعر العربِ، أو شاعر المليون، ومع وجود فضاءاتٍ في الشابكة العالمية للشعر تبقى محدودة الفاعلية، ولا بدَّ من قنواتٍ فضائية تخصص للشعرِ وتعتني بموادّه، وتدفعُ مواهبه إلى الأمام، وتتفاعل مع الناس، وتحرِّكُ فيهم الملكاتِ العربيةَ الأصيلةَ، يخَصص لها متفرغون اختصاصيون، وتصرفُ عليها الأموال، وتأخذ حيزًا من العناية السياسية، والاجتماعية.


4- الأزمة في جوانبها السياسية:
ما تزال أمتنا العربية والإسلامية تعاني من آثار التفكك الذي حصل بعد انهيار الخلافة العثمانية، ومخططات التقسيم التي قسّمت العرب، وفككت المسلمين، ولو أن الأمر اقتصر على التقسيم والتفكيك من غير التدخلِ السافرِ في أدق الشؤون لكانَ الأمر أيسر، والخطبُ أهون، لكنَّ القوى المادية الغربية المستكبرة أنابتْ عنها عملاءها السياسيين، فتابعوا ترسيخَ مبادئ الاستعمار الجديد في الثقافة واللغة، ووطدوا التبعية السياسية بكُلِّ أبعادها، فصار التغريبُ بديلاً عن التعريب، وركعنا وخضعنا لما أسموه الشرعية الدولية وما يتبعها من مستلزمات، وحلَّ الهاجسُ الأمني الذي يسعى لحفظِ الحكّام بديلاً عن هاجس حفظ الثقافة والشعر والأدب، وبانعدام الإرادة السياسية لتثبيت الهوية الحضارية العربية والإسلامية ستغيب الخطوات العملية التربوية والإعلامية، ولن يكون للمؤسسات المشغولة بدعم اللغة والأدب والشعر دعمٌ سياسي، بل إنها سوف تعاني من المعيقات التي تحجبُ دورها أو تضعفه، ويبقى شعار العروبة للمزايدات والمقايضات.
5- الأزمة في إطارها العولمي:
شئنا أم أبينا فإننا في واقعٍ عالمي جديدٍ مارس التغريب القسري دوره بكل ما أوتي من وسائل، وهو يقود الشرفاء والأحرار إلى وعي المرحلة ومضاعفة الجهد، فالحرب الثقافية واللغوية التي تشنُّ على عالمنا العربي والإسلامي لا تقل شراسة عن الحروب العسكرية، بل إن الاتساعَ الكبير في الحروب الثقافية أثبت أنه أسرعُ انتشارًا من الحروب العسكرية، وبدا واضحًا أن قادة العولمة يستأصلون الثقافات والقيم والمبادئ استئصالاً لا يبقى فيه للأدب أو الشعر مكان، وما تياراتُ الحداثة التي هدّمت كل القواعدِ العربية وقطعت الصلة بآباء اللغة وأدخلت المستمعين في صرعة المجهول المتداخل مع المعلوم المتصارع مع اللاواقعي المهووس في اللاعقلاني الذي يخلط الروث باللبن بالياسمين ليصنع غير المصنوع ولينتج غيرَ المنتَج... ما هذه التيارات إلا مظهرًا من مظاهر فوضى الشعور العربي الحائر في الضياع أمام مخطط عولمي مدروس المقدمات والنتائج، ولا مخرجَ لنا من الأزمة إلا بمواكبة التطور مع المحافظة على ثوابتنا الحضارية ومبادئنا الإنسانية، وقواعدنا اللغوية، وعندها نسمعُ شعرًا مبدعًا جديدًا لا يتمرّدُ على الأصل، ولا يتقيّدُ بالصور والأساليب.
6- الأزمة في جوانبها الشاعرية:
توليدُ الشعراءِ يعتمدُ على اهتمامٍ متميِّزٍ بالأطفال، فحين يحفظون مع كتاب الله تعالى روائع الشعر ويكثرون من روايته، وتتم الاختياراتُ التربوية الأدبيةُ بعيدًا عن الشعرِ المغرب في ألفاظه، قريبًا من السهل الممتنع، الذي يُدخلُ المتعة إلى الطفولة دون أن يخدش براءتها، ويُتَدرَّجُ بالموهوبين في الثقافة والاطلاع العلمي والاجتماعي، حتى تنشأ مع الملكة الشعرية سعة الاطلاع، ويقتربون من الواقع، وينسجون حين يتم نضجهم إبداعاتٍ جميلةَ الشكلِ ساحرةَ الصور، مثيرةً للأفكار، منيرةً للأرواح.
ويكون ذلك بوجود مؤسساتٍ تمتلك الصلاحية في المجتمعاتِ العربية، وتُزَوَّدُ بالإمكانات، وتراقبُ حركة التطوير الأدبي وترصدها وتدرس نتائجها دراسة تحليلية تمكنها من تدارك الخطأ، واستدراك ما قد فات.
الخاتمة:
إن مواجهة الأزماتِ التي تحيطُ بالشعر والأدب العربيين ممكنة حين توجد الإرادة، وتعقدُ من أجل ذلك ورشاتُ العمل في مجالس البحث المستديرة، وحينما تكون مدعومة بالإرادة السياسية، والتفاعل الاجتماعي.
ولو قُدّر لنا اجتيازُ الأزمة والتغلب على التحديات لكان لوجودنا قيمة واعتبار.
أعلى الصفحة