الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Symposia الندوات
 
أثر الحرية المنضبطة في عناصر الإعلام
د. محمود أبو الهدى الحسيني
 
توطئة: مفهومات القيم التي منها الحرية في الثقافات المختلفة:
لحضارتنا العربية الإسلامية خصوصية كمالية تميزت بها عن سواها، فقد استمدت القيم والثقافات فيها دلالاتها ومفهوماتها من ميزانٍ فاضل قويمٍ ثابتٍ بعيدٍ عن الإفراط والتفريط، قامت عليه نهضتها، وارتفع به بنيان مدنيتها في المِساحات المعرفية والخلقية والمادية.
أما المدنيات المادية المعاصرة فقد استمدت مبادئها من فلسفاتٍ مختلفة أنتجت في السلوك البشري إفراطا أو تفريطا.
- الحرية في الليبرالية والحداثية:
على سبيل المثال انطلقت الحركة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الغرب المادي بدايةً من الفلسفة الليبرالية التي تقوم على ثلاثية: كمال العقل، وكمال البشر، ومثاليةِ حقوقٍ أسمَوها حقوقَ الإنسانِ في الطبيعة.
ومعلوم أنَّ العقل مهما بلغ في منازل الارتقاء يبقى محدودًا وقاصرًا عن إدراكِ جميعِ الحقائقِ، كما أنَّ المخلوقَ البشريَّ في الظروفِ المتنوعةِ يتراوح بين محذوراتِ النفوسِ ومرغوباتها فوصفُه بالكمالِ من غيرِ ميزانٍ أو معيارٍ ثابتٍ هو تضييعٌ لمفهومِ الكمالِ أصلاً، وتتبَعُ هذا العنصرَ بالضرورةِ إشكاليةُ تحديدِ مفهوم الحقوقِ الطبيعيةِ، لأنَّ الميزانَ الثابتَ فيها مفقودٌ أيضًا، ويختلف من تجمعٍ بشريٍّ لآخر.
وحين يحاول الغرب (منطلقًا من ثلاثيته تلك) تحديدَ مفهوم الحرية، يقع في فوضى التشريعات الوضعية المتغيّرة، التي تفرز من آنٍ لآخر تعريفًا للحرية قد يكون نوعا من أنواع العبودية للمادة، وطريقا لإشباع الشهوات الحسية والنزوات النفسانية، كما أن كثيرًا من الناس هناك يستثمر تعريف الحرية ذاك لتأليه الـ (أنا) ويستغله في أفعاله أبشع استغلال، ويوجه ما يملكه من قوته المادية لتحقيق جشعه ونهمه، وتظهر نتيجةً لذلك في تلك المجتمعات الفوارق الطبقية الكبيرة بين البشر، وينبسط الظلم على كل ما تطاله يد الأقوياء في أقاليمهم أو سواها من الأقاليم البعيدة التي تعيش فيها بقية أفراد الأسرة الإنسانية.
وتسخَّر من أجل هذا الظلمِ باسم الحرية كلُّ الوسائل المتاحة التي من أهمها الإعلام.
وسارت في الحركاتِ المعاصرة اتجاهاتُ (الحداثة وما بعد الحداثة) على طريق سابقتها (الليبرالية) لكنها طورت بعض الشكليات، ولم تختلف عنها كثيرا في المضمون، اللهم إلا في استخفافها بالعقل البشري، إذ تجاوزت ما كان محترما فيه إلى اللامحدود، واللامقدّس، فكرّست فوضوية عابثة أطلقت عليها اسم الحرية.
- الحرية في الفلسفات الشرقية:
كانت الحركة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الشرق الشيوعي وما والاه من الحركات والأحزاب في البلاد الأخرى لاسيما في الأمريكية الجنوبية تنطلق مما يسمونه مصلحة الطبقة الكادحة التي تمثلها القيادات السياسية الحاكمة - بزعمهم – وكانت تلك القيادات تصادر في النتيجة تحديد القيم وتعريفها بما يتناسب ومصالحها، وتُحَوِّل تلك الطبقة العاملة إلى مجتمع مسحوق يُملى عليه كل شيء، ليصبح مفهوم الحرية فيه ضائعًا يحدِّد مِساحته الحاكمون، فما قرروا أنه مستحسنٌ فللناس الحرية فيه، وما وصموه بأنه عدوٌّ للشعب والجماهير فالكلام عليه جريمةٌ لا تُغتفر، ولا يستساغ في هذا الظرف شيءٌ اسمه حرية إعلام طالما أن هذا الإعلام لا يصفِّق لأولئك المستأثرين بالحكم باسم الجماهير زورًا وبهتانًا.
- الحرية في عالمنا العربي المعاصر:
برزت في عالمنا العربي في الثلث الأول من القرن العشرين الحركات القومية التي قدّست القومية العربية، ولما كانت القومية مفهوما جامدا بحثت مع هذا التقديس عن خليطٍ مستوردٍ من المبادئ الوضعية الشرقية والغربية، وتخبطت بعيدًا عن جذور ثقافتنا الحضارية في تيه الحيرة والضياع، وكانت بسبب عقدة النقص الوليدة في عصرِ ما بعد الاستعمار تخجل من ميزانها الفاضل الذي قامت عليه حضارة القرون الأربعة عشر، لأنها حين أفاقت بعد تحررها من الاستعمار وجدت واقعًا مفعمًا بالضعف والتخلف والانقسام، وبدلاً من العودة إلى ميزانها القويم النادر تلفتت يمنة ويسرة والتقمت فتات الآخرين فما أسمنها ولا أغناها من جوع، وأصبح مفهوم الحرية في عالمنا العربي المعاصر (على المستوى العملي) تابعًا لتصورات المتنفذين فيه، وللمواطن العربي أن يتحرك في المِساحات المرسومة له ليس إلّا، فهي حريتُه لا غير، والإعلام حتمًا بات بها مرتهنا.
- الحرية في منظور الأخطبوط اليهودي:
ما يزال السلوك المنبثق عن الأخطبوط اليهودي العنصري الذي يبسط أطرافه في الغرب والشرق ينبعث عن غايات أصبحت مفضوحةً لكل باحث محورها الرغبة في السيطرة على العالم من خلال الحركات الصهيونية، والمحافل الماسونية، والقيمُ المعتبرة لديه هي الأفكار الخادمة لهذه الغايات فالمحرقة النازية تحولت (بجهوده) إلى حقيقةٍ كبرى تتجاوز في قدسيتها حقيقة الألوهية، وتتفوق على مكانة الرسل في الشرف، فالإلحاد – كما يشيعون - حريةٌ شخصيةٌ، والاستهزاء بالرسل تعبيرٌ عن الرأي، أما التشكيك بالمحرقة اليهودية التي أحيطت بآلاف الأكاذيب فإنه جريمة تعاقب عليها أكثر القوانين العالمية، وتهتزُّ لها الشرعية الدولية، وهي مندرجةٌ في أكذوبة معاداة (الساميّة) .
والحرية في منظورهم تعني كل شيء ولو كان يهدم صرح الأخلاق ويدمر بنيان الفضيلة طالما أنها لا تمس القدسية العنصرية المكذوبة تلك.
- الحرية في العولمة الجديدة:
تنطلق أصول العولمة من (مبدأ القوة) الذي يرغبُ في إلغاء (قوة المبدأ) ، فقوة المبدأ تحول الضعيف إلى قوي حين يكون على الحق، وتحول القوي إلى ضعيف حين يكون على الباطل، أما مبدأ القوة فإنه يعطي الأولوية دائمًا للقوي وإن كان ظالمًا أو مُبطلاً أو سارقًا أو حارقًا.
والحرية في منظور العولمة هي ما كان خادمًا لطغيانها، وإلا فإن أصحاب العولمة في سلوكهم المعاصر لا يجدون غضاضة في إسكات قناة فضائية بالمتفجرات المنهمرة عليها من السماء لأنها تفضح ممارساتهم التي يأباها من فيه بقية ضمير.

- الحرية المنضبطة في ثقافتنا الحضارية العربية الإسلامية:
نتساءل أخيرا عن مفهوم الحرية المنضبطة في ثقافتنا العربية الإسلامية التي عليها ارتفع بنيان حضارتنا قرونًا عديدة؟
ثم نتساءل عن إمكان انطلاق الإعلام بعناصره الأربعة: (المرسِل، والمستقبل، والرسالة، والوسيلة) من هذه الحرية المنضبطة؟
أولاً: مفهوم الحرية المنضبطة في ثقافتنا الحضارية العربية الإسلامية:
1- ما يميز القيم في ثقافتنا الحضارية العربية الإسلامية أنها لم تكن تابعة لأهواء البشرية المختلفة، فالأهواء متغيرة، وبسبب تغيرها لا تصلح أن تكون مرجعية أو ميزانًا.
وقرر القرآن أنَّ مفهوم الحقِّ الذي تصدر عنه الحرية لا ينبغي أن تحكمه الأهواء البشرية، بل إنَّ على الأهواء أن ترجع إليه، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون:71] وقال: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 36]
ولبيان الأمر نتأمل في هذا المثَل :
قد تكون أهواءُ تجمُّع بشريٍّ مصلحي راغبةً في المال، لكنَّ حصولها عليه لا يتحقق إلا بقتل نفسٍ أو نفوسٍ إنسانيةٍ، فنجد أنَّ قيمنا تمنعنا من سلوك هذا الطريق المفضية إلى قتل البشر من أجل المال، ونجد أنَّ الحقَّ عندها يحكُم حريةَ الأفراد والجماعات ويوجههم إلى مستوىً خلقي فاضل يترفعون فيه عن تقديم المال على حياة البشر.
ولا نرى في الواقع المبادئ المادية تتوجه إلى ذلك.
2- استقلَّت القيم في ثقافتنا عن تأثير العاطفة الذي قد يكون صارفًا لها أو مبدِّلا، فلا يُغيّر البغضُ أو الحبُّ الحقّ ولا يحتال عليه.
قال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} [المائدة: 8] فمنع البغضَ من تغيير الحق.
وقال أسوة الأمة ومؤسس نهضتها صلوات الله وسلامه عليه: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها" فمنع الحبَّ من تغيير الحق، وقال أيضًا: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" تقرر كل ذلك حتى لا تتأثر العدالة بالانفعالات، فأفرزت القيمُ الثابتة مفهومًا عادلاً ومعتدلاً للحرية يكون فيه الإنسان وسطًا بين الإفراط والتفريط.
3- كانت المصالح البشرية معتبرة في قيمنا، لكنْ بشرط انعدام الإضرار العامّ بالآخرين وبقاء المصلحة العامة للمجتمع مقدَّمة على المصلحة الفردية الخاصة، فلا اعتبار لمصلحة خاصةٍ توقع المفاسد في المجتمع، وانبثق مفهوم الحرية في ثقافتنا عن هذا الأصل الحضاري البديع، فمهما كانت حرية الفرد معتبرة ومحترمة لا ينبغي أن تكون سببًا لدمار المجتمع أو فساده في مبانيه أو معانيه.
4- اعتبرت قيمنا الحضارية سُنن الكون ودعت إلى موافقتها وشنَّعت على مخالفيها، ومثال ذلك دعوةُ القرآن إلى توظيف الغريزة الجنسية فيما خلقت له وفق سنن الكون قال تعالى: {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] أي من الأولاد بالتكاثر الطبيعي الناتج عن الزواج المحترم بين الرجل وزوجته، وذمُّ القرآن للشذوذ الجنسي المناقض لسنن الكون قال تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] وهي مخالفة الإنسان لنواميس الكون وسننه الطبيعية، وتوجيهه غريزته إلى الشذوذ المناقض لهذه السنن.
ولا نجد هذا في كثيرٍ من المبادئ المادية التي تبنت الحرية الفوضوية.
وهكذا كانت ثقافتنا منسجمةً مع التوازن الكوني، وكان مفهوم الحرية منضبطا في ثقافتنا بهذا التوازن، فكل سلوكٍ يخرِّب التوازن الكوني باسم الحرية لا اعتبار له عندنا، وكل حركة تخدمه وتحافظ عليه فلها الحرية بكل وجوهها الكريمة.
ثانيًا: تأثير الحرية المعتبرة في قيمنا الحضارية على عناصر الإعلام:
لن يكون للإعلام أثر فاعل في المجتمع حتى يكون مكانه في مساحة الحرية، وحين نتحدَّث عن الحرية والإعلام فإن علينا أن نفرِّق ابتداءً بين (حرية الإعلام) و(الإعلام الحر) فلا توجد في المجتمعات الإنسانية المتحضِّرة حرية مطلقة، لأن الحرية المطلقة كائنٌ لا وجود له إلا في الخيال، ونجد في كل المجتمعات مهما كانت متحللة بعض الأعراف المحترمة، والتقاليد المعتبرة، والأخلاق الإنسانية، وهذه المبادئ مهما قلَّت أو كثرت تحكم مفهوم الحرية فلا بدَّ من خضوعها للثوابت الإنسانية الكبرى، وبهذا التبيين يظهر انتفاء (حرية الإعلام المطلقة) فما بقي إلا أن نتحدَّث عن (الإعلام الحرّ) الذي يتحرر عن المؤثرات الصارفة له عن وظيفته التي بها يتواصل مع الجماهير فيقدم لهم ما ينفعهم، ويلبي في برامجه حاجاتهم، ويفتح لهم آفاق العلم والمعرفة، وينقل إليهم بأمانة صدق ومهنية ما يدور من حولهم في القرية البشرية العالمية.
هذا (الإعلام الحر) أصبح وجوده نادرًا في ظروف الضغط الاقتصادي والسياسي والعولمي، وأصبح (الإعلام) بوقًا للترويج المصلحي المالي أو السياسي، وفي كثير من الأوقات ألعوبةً أدواتها الكذب والتزييف وقلب الحقائق.
وإننا لا نضمن ارتقاء في أدائنا الإعلامي حتى نحقق تحرر العناصر الإعلامية الأربعة (المرسِل، والمستقبل، والرسالة، والوسيلة) في مساحة الحرية النافعة المنضبطة.
1ً- أثر الحرية في المرسِل:
المرسل عنصر من أهم عناصر الإعلام وتحرره ينعكس على العملية الإعلامية كثيرًا، ولن يكون المرسِل متحررًا حتى يرتقي عن أهوائه إلى ميزان العدالة والفضيلة وهدي الخالق تبارك وتعالى، فإن لم يكن كذلك فإنه سيتحول إلى سلعةٍ تباع وتشترى، ومن المناسب ذكره للاعتبار في هذا المقام أن حاكمًا عربيًا استدعى الصحفيين يومًا من بيروت إلى بلاده، واجتمع بهم في حفل عشاء أراد من خلاله جرّهم إلى دعم سياساته، أو الحياد على الأقل أمامها، فقالوا له - وهم من بلد يتمتع بالحرية - : "تريدنا أن نفرِّط في الحرية التي نتمتع بها بدون ثمن؟" فكانوا في هذا الموقف تجَّارًا يبيعون المبادئ ويشترون فيها بعيدًا عن وصف الإعلامي الحرّ.
وحتى يكون المرسِل حُرًّا بالمعنى الذي قدَّمناه لا بدَّ له من شروط من أهمها:
أ‌- الصلة المتينة بالله التي تجعله ثابتًا أمام المرغِّبات والمرهِّبات المفسِدة:
فلن يكون الإنسان قادرًا على التمسك بالحق، مؤديًا رسالته بأمانة حتى يكون ثابتًا أمام الجواذب الترغيبية والترهيبية الفاسدة، ولن يقدر على الثبات من غير استمداد صادق من مصدر كل قوة وهو الله تعالى القائل: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ} [الأنفال: 45].
وسوف يتعرض المرسل للضغوط العولمية المحللة لثقافة الأمة وآدابها وأخلاقها، وسوف تعرض عليه المغريات الكثيرة التي يسيل لها لعاب الضعاف، ولن يصمد أمامها من غير الصلة بالله.
ب‌- الاستقلالية عن المتنفذين الذين يرغبون في تحويل الإعلام إلى أداة أو بوق يُروِّج لمصالحهم:
ولا يعني ذلك أن يتحوَّل الإعلامي إلى صفِّ معارضة أو مواجهةٍ دائمةٍ، فهو مع المتنفذين في صوابهم، وهو على خلافٍ معهم في خطئهم، وقد يكون في مواقفه الإعلامية الصادقة المخلصة الأمينة مصلحًا لما أفسده الفاسدون، أو منبّهًا لما غفل عنه أصحاب القرار.
وينبغي أن تكون هذه الاستقلالية محاطة بالعلم والمعرفة والحكمة، وأن لا تكون منبر جهالة وسِباب وشتيمة فالسفهُ شيء والاستقلالية المتحرِّرة عن أهواء الأقوياء شيءٌ آخر، وشتان بين من يكون في مواقفه حكيمًا ومن يكون إمَّعةً، وقد جاء في الحديث النبوي: "لا تَكونوا إمَّعَةً تقُولونَ إنْ أحسَنَ النَّاسُ أحسناً وإنْ ظَلَموا ظَلَمنا ولكنْ وطِّنُوا أنفُسكُم إنْ أحسَنَ النَّاسُ أن تُحسنُوا وإنْ أسَاءوا فلا تَظلِموا"
ت‌- التحلي بالصبر:
ولا يصل إلى النجاح متعجِّل، وقد كان دعاة البشرية إلى الصلاح من الرسل أكثر الناس صبرًا، والإعلامي الأمين الحرّ سوف يجد تحدِّيات كثيرةٍ، وعوائق كبيرة، وحين لا يملك وصف الصبر مع التزامه المخلص برسالته سرعان ما يقع فريسة اليأس والإحباط، ويخرج عن وصف حريَّته.
ث‌- الشجاعة والجرأة في الحق:
ويكون هذا من غير فظاظةٍ أو غِلظة، فالمقصود تبيين الحق بصدق وإخلاص بعيدًا عن الوقاحة المستبشعة أو تجريح الآخرين، وإذا كان الله تعالى يوجه رسوليه موسى وهارون إلى الطاغية فرعون فيقول لهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا} [43-44] فأحرى برجال الإعلام أن يلتزموا الجرأة واللين معًا، وهو أقرب إلى القلوب وأجدى في التأثير.
ج‌- تفاعل المرسل الشعوري مع رسالته الإعلامية:
فالإعلامي الذي ينقل إلى الجماهير مضمونًا لا يتفاعل معه هو أقرب إلى الآلة الجمادية منه إلى الإنسان، أما المتفاعل مع رسالته فيكون أداؤه متميزًا عن غير المتفاعل، فيبذل قصارى جهده لتحسين الأداء، واستعمال أنجع الأساليب الموجهة إلى فئات الجمهور المتنوعة.
2ً- أثر الحرية في المستقبِل:
بمقدار ما تتضافر الجهود لتدريب المستقبِل على التحرر المنضبط سيكون التفاعل الإعلامي مجديًا، ولا يكفي أن تتضافر الوسائل الإعلامية لتحقيق هذا الهدف لكنْ لابدَّ من مؤسسات أو هيئات اجتماعية تعضد هذا الهدف وترسخه، وقد تقدم في مبحث مفهوم الحرية لزوم الفصل بين الانفعالات والمبادئ، وحين يتوجه الإعلام إلى عواطف المستقبلين فيتلاعب بها ويصرفهم بسببها عن الحقيقة يكون بهذا مصادرًا حريتهم وواضعًا إياهم في أغلال (غريزة القطيع).
فالحرية بضوابطها المتقدمة حين توجد في الطرف المستقبِل تجعله مؤثرًا في الإعلام بمقدار ما يكون فيه متأثرًا ويقبل على الحوار التفاعلي معه مدفوعًا بتكوينه المحرَّر عن رق الأشياء والموصول بثوابت الحق والعدل والفضيلة.
ويبدأ تدريب المستقبِل على التحرر في أدنى مستوياته العُمْرية والثقافية فيُرتقى به في سُلَّم التطور بمختلف أنواعه، ويُدفَعُ لممارسة دوره التفاعلي طفلاً كان أو شابًا، رجلاً كان أو امرأة، أو كهلاً أو شيخًا، سياسيًا، أو اقتصاديًا، أو مثقفًا نخبويًّا، أو عامّيا مبتدئًا، فلكلٍّ إمكاناته التي يكون فيها مبادرًا وفاعلاً بدلاً من أن يكون مجرد وعاء متلقٍّ ومنفعل.
ومما يعين على تحرر الطرف المستقبِل الأمور الآتية:
أ‌- التثبت مما يسمعه أو يقرؤه أو يشاهده ومتابعته من مصادره العلمية الموثوقة، والاستعانة في هذا بأصحاب التخصُّص.
ب‌- المبادرة الجريئة إلى الحوار التفاعلي وتجاوز اللامبالاة التي قد يسببها توهُّم بعض المستقبلين لهيبة السلطنة الإعلامية.
ت‌- التحرر عن التعصب للرأي واعتبار الحوار بحثًا صادقًا عن الحقيقة لا يقصد منه الانتصار للنفس.
وكل ما تقدَّم يحتاجُ الوصول إليه إلى جهد دعْوي اجتماعي تتغير من خلاله ثقافة الناس من اللامسؤولية إلى الإحساس العميق بها، وقد يقتضي ذلك زمانا لكنه من ضرورات التغيير.
3ً- أثر الحرية في الرسالة الإعلامية:
أصبحت الرسالة الإعلامية في كثير من المؤسسات المحلية - مع الأسف – خاضعة للمؤثرات الخارجية التي لا صلة لها بهويتنا الحضارية، بل وتحولت في بعضها إلى أدوات هدَّامة في أيدي أعداء هذه الهوية الحضارية فهي تشوه الفكر، وتكرِّس الشتات والفرقة، وتمجِّد العروش المستبدَّة، وتفسِد الأمزجة والآداب والأخلاق بأكثر المواد الإعلامية هبوطًا وانحدارًا.
ولا يمكن للرسالة الإعلامية أن تكون إعلامًا حرًّا أمينًا صادقًا حتى يكون مضمونها مشبهًا دور المُصلِح الاجتماعي الذي يبعث في النفوس همَّةً إلى بناء الحضارة والنهضة ويدفع الناس إلى النافع ويعينهم على الارتقاء المعرفي، ولن تتحقق هذه الحرية في الرسالة الإعلامية إلا بأمور منها:
أ‌- الواقعية والموضوعية:
وذلك بالابتعاد عن التحيز، أخذًا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]
ولن تكون الرسالة الإعلامية حرَّة وهي خاضعةً للمؤثرات الشخصانيَّة، ومع الأسف تبتعد اليوم كثير من المؤسسات الإعلامية العالمية عن الموضوعية والواقعيَّة، وتختلق الأكاذيب ترويجًا لفكرة ما لقاء بعض المبالغ المالية أو المنافع الأخرى، ومن أمثلة ذلك أكذوبة وكالة (هيل ونولتون) لإشعال الفتيل في حرب تحرير الكويت حيث أجرت مقابلة مع ابنة سفير الكويت في الأمم المتحدة مدَّعيةً أنها لاجئةٌ ضعيفة هاربة من يد العراقيين، وزعموا أنها قد كتمت اسمها خوفًا من الانتقام الذي يُمارَس إزاء أسرتها القابعة تحت الاحتلال العراقي (وأسرتها بالطبع تسكن في قصور أمريكا) وكانت تلك الفتاة تروي (كذبا) قتلَ العراقيين للمواليد الكويتيين الجدد باختطافهم من الحاضنات ورميهم أرضًا، روت ذلك والدموع تنهمر من عينيها، فهزّت هذه المقابلة المكذوبة الأمريكيين، وطالبوا حكومتهم بالانتقام، وبعد انتهاء الحرب عُلِمَ أنَّ وكالة (هيل ونولتون) تلاعبت بـ (250) مليونًا من الأمريكيين لقاء عشرة ملايين دولار.
إن الموضوعية والواقعية لا تعني إهمال الربحية، لكنَّ الربحية تتحقق بالطرق الشريفة المستقيمة، وتتحقق بالالتواء والغش والكذب، والإعلام الحر لا يكون إلا في الوصف الأول، أما المستأجر الرخيص فإنه يسلك السبيل الثاني بسهولة ويسر.
ب‌- الارتقاء عن الانحباس في الأهداف المحلية إلى الرسالة الإنسانية:
سوف تبقى الرسالة الإعلامية أسيرة الظرف المحلي ما لم تضع في أهدافها الوصول إلى (الإعلام الإنساني) الذي يذكِّر بالأسرة البشرية المنحدرة عن الأب الواحد، ويؤسس للتعارف الإنساني، والسلام على الأرض، وفي مثل هذه الحالة ترفع الحريةُ المنضبطة الرسالةَ الإعلامية إلى هذا المستوى الرفيع لأنها تحررها من أسر الإقليمية والمحلية.
ت‌- الاعتدال والوسطية:
عادة ما تقود الأهواء إلى الإفراط أو التفريط، وحين تتحرر الرسالة منهما وتلتزم الميزان الرباني تبقى وسطًا في اعتدالها وتميزها بعيدة عن الغلو، ونائيةً عن التحلُّل.
ث‌- الوضوح في الرسالة الإعلامية:
الضبابية عدول عن الموقف الحر، ونزوح عن المضمون الإنساني، وكلما كان الإعلام حرًّا تكون رسالته الإعلامية أكثر وضوحًا وبيانًا، وهذا لا يتنافى مع كون الأداء يجتنب العرض المباشر للأفكار، ويعتمد توصيلها بالأساليب القصصية وما يماثلها من العرض غير المباشر لتلك الأفكار، ويرسِّخ وضوحَ الرسالةِ تكريرُ المضمون بصيغٍ وأساليب متعددة، وهذا التكرير يصبحُ أبلغ تأثيرًا في المستقبل، وأبين وضوحًا في الهُويَّة، وغالبًا ما يعتمد الإعلام المستأجرُ والمشبوه على الظلامية أو الضبابية أو التشكيك، لأن صاحب الرسالة الشريفة لا يخجل من توضيح رسالته.
ومهما كانت مضمونات الرسالة الإعلامية متعددة ثقافيًّا أو خُلُقيًّا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا أو سياسيًّا أو ربحيًّا فلن تكون في منظومة الإعلام الحر حتى تعلن عن هويتها بوضوح، والصدق هو أقرب الطرق إلى النجاح خلافًا للميكيافليّة التي لا تجد غضاضة في الخداع.


4ً- أثر الحرية في الوسيلة:
بتطوّر الوسائل الإعلامية وتنوعها ازداد خطر الحرية الفوضوية وبرزت الحاجة إلى الحرية المنضبطة بالضوابط الإنسانية الفاضلة التي تقدَّم ذكرها.
وفي الوقت نفسه أصبحت مُصادرةُ الحرية المنضبطة في استعمال الوسائل عدوانًا على الحق والفضيلة، وغدا احتكارُ هذه الوسائل في محابس المصالح الخاصة السياسية في دوائر العروش، أو الاقتصادية في أسواق المنافسات غير الشريفة، أو الفكرية في الحروب الثقافية المعلنة على حضارة الإنسان ورقيه الخُلُقي جريمةً إنسانية بشعة.
إنَّ الدور الكبير الذي تمارسه الوسائل: المقروءة، والسمعية، والسمعية البصرية، جعل الحرية المنضبطة مطلبًا رئيسًا، وشرطًا لا يُستغنى عنه لنجاح هذا الدور.
فالوسائل الإعلامية بأنواعها المتعددة لا تمارس دور الإنباء بما يدور في القرية العالمية من الوقائع والأحداث فقط، لكنها أصبحت تشارك في التثقيف والتعليم والتربية والحوار التفاعلي التبادلي لاسيما بعد اتساع الإمكانية الحوارية في البث التلفازي المباشر، ومنتديات الشابكة (الانترنت) وفتح الزوايا التفاعلية في الصحف والمجلات، وهذا يعني تبادلاً ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا، ولن يدوم له النجاح إلا في أجواء الحرية المنضبطة التي توصل الجميع إلى هذه الوسائل.
بل إن تسهيل وصول الجميع إلى الوسائل يعكس صورة البشرية ثقافيًا واجتماعيًا وخلقيًا، ويُعين المصلحين والمخططين وأصحاب القرار على تخطيط المستقبل ورسم آلاته التربوية والتنموية والتطويرية، أما حبس الوسائل حكرًا على بعض المتنفذين أوالمنتفعين فإنه ينتج ضبابيةَ الرؤية، وانحصارَ التطوير والإفادة في طبقة محددة، وإهمالَ الأكثرية في غياهب التلقي الأعمى المعطِّل للفكر، والملغي للتدبر والتعقل والمشاركةِ في صناعة الأمة من جديد.
لكن الواقع السياسي العربي المشتت في أقاليمنا خاصة، وانعدامَ الرؤية التطويرية أو ضعفَها، وتطويقَ الحقائق بالتعميم، وما يمارس علنًا من تشويهِ ثقافتنا الحضارية الأصيلة، وارتباطَ الإعلام بالحاكمين، وإدراجَ الفن الهابط بديلاً عن مشروعات النهضة، كل ذلك يخنق الحرية في استعمال الوسائل.
وقد أصبح طبع كتاب أو صحيفة أو مجلة فضلاً عن إنشاء إذاعة أو محطة بثٍّ تلفازي ضربًا من المُحال في بعض أقاليمنا العربية طالما أن الوسائل المذكورة لا تتناغم مع مصالح السلطنة السياسية، وأصبحت بعض الدول تحجب المواقع الحرة على الشابكة حتى لا تصل إلى أعين الناس.
وليس غياب الحرية هذا إلا علامةَ ضعفٍ شديدٍ ومرضٍ عضال، لأن الذين يمارسون مُصادرة حرية الوسائل هم أضعف حجةً وأشد تهمةً وأحرى بهم أن يشتركوا مع شعوبهم في بناء التطور الحسي والمعنوي، لكنهم – مع الأسف- استصحبوا مع العجز الحضاري قوة السلاح واعتنقوا (مبدأ القوة) بديلاً من (قوة المبدأ).
خاتمة:
لا نجاح للإعلام حتى يكون حرًّا بعناصره الأربعة.
ولا تنفع الحرية في الإعلام حتى تكون منضبطة بميزان العدالة الإنسانية وثوابت الفضيلة ونواميس الكون.
وقد ألمح الرسل إلى هذا الميزان القويم وعمل على خدمته جميع الدعاة والمصلحين.
فإلى إعلام هادفٍ فاضلٍ متطور، في بيئة من الحرية النظيفة الكريمة، فإن رسالة الإعلام هي استمرار لرسالة الرسل، ومتابعة لمسيرة التقدم والإصلاح.
أعلى الصفحة