الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
الحج ولادة إنسانية جديدة
خطبة الجمعة للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في الجامع الأموي الكبير بحلب
12/11/2010
 
مشاهدة /video/
ملف نصي   استماع ²
في هذه الأيام المباركة ترنو العيون إلى بيت الله الحرام، وتتعلّق القلوب وتطوف الأرواح بذلك السرّ المنير، وتتصل من خلاله بالمعاني الإبراهيمية التي فيها المحبّة والخُلّة والاستسلام لله تبارك وتعالى، فكلما طافت تلك الأشباح وتعلّقت الأرواح بذلك البيت العتيق (الكعبة المباركة)، زاد تعلّقها بسرّها، وأخبتت لربّ البيت الذي بناه إبراهيم وتعلّق بربّه.
إنها مناسبة الحجّ الذي هو الركن الخامس من أركان ديننا الإسلاميّ، وهذا الركن إنما هو تطهيرٌ للإنسان وولادةٌ جديدة له.
لقد خلق الله تبارك وتعالى الإنسان جسدًا ماديًّا ترابيًّا وروحًا معنوية لطيفة: فهو بجسده متعلِّق بالمادة مُتحرِّكٌ فيها، وهو بروحه صاحب المعاني وصاحب الأنوار والأسرار.
فإما أن يظهر هذا الإنسان بحسّه ومعناه (أو بجسده وروحه)، وإما أن يُعطِّل أحد شقيه.
وأزمة العالم اليوم هي أنه عطّل الشقّ الروحانيّ، فهو يعيش من غير قلب ومن غير روح، ولا أعني الروح المُدبِّرة للحياة، إنما أعني الروح التي يتلألأ بأوصافه الربّانية.
وهكذا ورد عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم:
(مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)،
وفي رواية: (..ورَجَعَ كَيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ).

وماذا يعني أن يتوجّه الإنسان إلى هناك ليمرّ إلى هذه التجربة التي يخرج فيها مولودًا جديدًا؟
وما معنى أن يكون في هذه التجربة من غير فسوق أو رَفَث؟
فأما الفسوق: فإنه الانحراف السلوكيّ عن منهج الله تبارك وتعالى الذي دعا الإنسانَ إليه.
وقد أنزل ربّنا تبارك وتعالى شريعته على حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم لتكون للإنسان هاديًا ومُرشِدًا، وحينما ينحرف عن السلوك الذي يوافق شريعة الله سبحانه ويسلك الطريق المعوجّ يقع في الفسوق.
فالفسوق انحرافٌ سلوكيٌّ عن الاستقامة التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وعن الشريعة التي هي للإنسان هداية وإرشاد.
فحينما يكون الإنسان في الحجّ من غير فسوق فإنه يتعلّم كيف يكون مستقيمًا على شريعة الله، ويتعلّم كيف يستسلم لله تبارك وتعالى في أحكامه، وكيف يكون مِطواعًا له.
وأما الرفث: فإنه حالة الإنسان الشهوانية في أقواله وأفعاله.
وانجذاب الرجل إلى المرأة وانجذاب المرأة إلى الرجل أمرٌ أوجده الله تبارك وتعالى في الإنسان.
لكن خروج الإنسان عن الحالة الشهوانية في القول والفعل ما هي إلا دورة تدريبية له ليكون في حالة من الروحانية المنقطعة عن البشرية.
وذلك كما دُرِّب الإنسان في شهر رمضان على الصيام فكان روحانيًا في نهاره، وكان مُدرَّبًا في ليله على استقامة متوازنة يكون فيها الرفث.
وانظروا إلى تكرير القرآن للفظ الرفث في شهر رمضان وفي الحجّ:
ففي شهر رمضان يقول: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]

ولكنه في الحجّ يقول: {فَلا رَفَثَ} [البقرة: 197]

والسرّ في هذا أنه هيّأ المؤمن في شهر رمضان فكان روحانيًا في صيامه في نهاره، وشهرُ رمضان تدريبٌ سنويّ، أما الحجّ فإنه يكون فريضة في العُمُر مرّة، وربما جدّده المؤمن سنة بعد سنة.
نعم يأتي الحجّ ليرفع الإنسان عن الرفث الذي أحلّه له في شهر رمضان، فقد أراده إنسانًا، ولن يكون إنسانًا إلا بروحه، فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ، فقطعه عن شهوانيته في الحجّ، وعندما قطعه عن شهوانيته أظهر معناه، وأظهر سِرّه ونوره، فكان الحجّ بهذا إخراجًا لمعاني الإنسان.
وعندما يرجع من الحجّ وقد طبّق ما أمره الله تبارك وتعالى به، يكون مُدرَّبًا على ترك الفسوق، وعلى ترك الانحراف السلوكيّ عن الاستقامة، وعلى ترك الانحراف السلوكيّ عن الشريعة الربّانية، ويرجع وهو مُنتفِعٌ بالمعاني الروحانية التي استفادها بعد أن قَطَع نفسه عن كل أنواع الشهوانية وكلِّ أسبابها وكلِّ ما يحيط بها..
فلما رجع من المكان الذي فيه كلُّ صلاةٍ بمائة ألف صلاة، وفيه المعاني المتجدّدة وهو يطوف بالبيت العتيق، وهو يسعى بين الصفا والمروة، وهو يقف على أرض عرفات، وهو يذكر الله عند المشعر الحرام، وهو يرمي شيطانية الشيطان في مِنى، وهو يُفيض إلى البيت... وفي كل هذه الأحوال كان في المناسك والمشاعر منقطعًا عن الشهوانية، فلما رجع رجع إنسانًا جديدًا كيوم ولدته أمه، طاهِرًا مُطهَّرًا.
وذلك لأن معنى الإنسان قد ظهر منه وفيه، فلما رجع رجع مُستفيدًا من مدرسة الحجّ، لأن مدرسة الحجّ تُخرّج الإنسان.
ويروى أن أحد الحكماء كان يمسك في يده مصباحًا ويبحث، فقالوا له: عن أي شيء تبحث؟
فقال: أبحث عن إنسان.
فقيل له: تبحث عن المستحيل.
قال: نعم، أبحث عن هذا المستحيل..
أبحث عن إنسان أراه وهو يحمل معاني الإنسانية..
أبحث عن إنسان أراه والإنسانُ مُتمثِّلٌ فيه مادّةً من خلال حركةٍ مُنضبِطةٍ مهتديةٍ بهداية الله تبارك وتعالى، وهو الإنسان بأخلاقه وأوصافه، وهو الإنسان باتصاله واستمداده من ربّه.
هكذا ينبغي أن يُخرِّج الحجُّ الرجال..
واليومَ يُدرَّبُ الناس قبل الحجّ على الحركات:
فيُدرَّبون كيف توضع ثياب الإحرام على الجسد، ويُدرّبون كيف يطوفون حول أحجار الكعبة، وكيف يكون الركض والسعي والهرولة والمشي بين الصفا والمروة...
لكنهم مع الأسف الشديد لا يُدرّبون على المعاني التي ينبغي أن يستفيدوها من مدرسة الحجّ:
فلا يُدرّبون ما الذي ينبغي أن تستشعره القلوب عند الكعبة..
ولا يُدرّبون ما الذي ينبغي أن تستشعره وهي تسعى بين الصفا والمروة..
ولا ما الذي ينبغي أن تستشعره وهي على أرض عرفات في يوم عرفة..
ولا ما الذي تستشعره القلوب وهي تذكر الله مُعظِّمة إياه عند المشعر الحرام..
ولا ما الذي تستشعره وهي تقف في مِنى ترجم وترمي شيطانية الشيطان...
فنحن نضبط الحركات، ونُقيم الدورات في المساجد للأفواج التي تُهيَّأ من أجل الحجّ، لكننا لا نُدرّب الناس كيف ينبغي أن تكون تلك القلوب التي توجّهت إلى البيت العتيق.
وهكذا تجد فوضوية المعاني في الحجّ..
والكل يسأل ويستفتي عن الأحكام الظاهرة، ولكن لا تجد أحدًا يسأل:
ماذا أفعل وقلبي في الحجّ مشغول بالأشياء؟
ماذا أفعل وقلبي في الحجّ مُهاجَمٌ من الشيطان؟
ماذا أفعل ومن المفترض أن أكون منقطعًا عن الشهوات وأنا رمزُ الشهوات في الحجّ؟!
فالكل يسأل: ماذا أفعل وقد ظهر منّي ما ظهر من سلوكٍ أو حركةٍ أو خلل في المظهر... ولا أحد يسأل: ما الذي أفعله بعد ما رأيتُ قلبي متوجهًا لغير الله وأنا في بيت الله؟!
الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فهل الذين يختصمون لتقبيله يختصمون لتقبيل يمين الله، أم أنهم يختصمون من أجل تقبيل حجر؟!
وهل الذين يطوفون حول الكعبة يطوفون حول أحجارها، أم أنهم يطوفون بالمعاني التي تنبعث، والتجليات التي تتنـزّل مع كلّ شوط من أشواط الطواف، والتي يستلهمونها من ربّ البيت؟!
إذًا:
(مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ) أي: خرج عن الشهوانية، وكان في الحجّ روحانيًّا.
(وَلَمْ يَفْسُقْ) فكان مستقيمًا على شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
(غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ورَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) لأنه استفاد من مدرسة الحجّ، فسيرجع إنسانًا.

ويجدر بنا أن نذكر دائمًا الرئيس الراحل صاحبَ مناسبة التصحيح التي نمرّ اليوم بذكراها الأربعين، حيث كان يردّد كثيرًا عبارةً ويبني سلوكه على أساسها ويقول:
"الإنسان هو غاية الحياة، وهو منطلق الحياة"
وهي كلمة تصيب عين الحكمة، فالإنسان هو غاية الحياة وهو منطلقها.
أعطني إنسانًا وخذ نهضة..
أعطني إنسانًا وخذ رُقيًّا..
أعطني إنسانًا ولن ترى احتيالاً..
أعطني إنسانًا ولن ترى غِشًّا..
أعطني إنسانًا ولن ترى لصًّا..
أعطني إنسانًا ولن ترى سارقًا...
فبناء الإنسان هو غايتنا وهو أملنا، وعندما يُبنى الإنسان ستتغيّر أسواقنا، وستتغيّر مصانعنا، وستتغيّر مراكزنا الرسمية في أوصافها وفي آليات عملها.. وسيظهر المجتمع الذي هو باختصار مجتمعٌ إنسانيٌّ.
هكذا يُولِّد الحجّ إنسانًا مولودًا جديدًا، فهل أعددنا أنفسَنا بولادة إنسانية؟
ولماذا كان الحجّ على المستطيع؟
لأن معاني الحجّ يمكن أن تكون وأنت في بيتك، فإذا ملكت المال فلتكن هذه المدرسة عند الكعبة المُشرَّفة، وإذا لم تملكه أو وجدت العوائق فمعاني الحجّ موجودة في بيتك إن أردت، فهي موجودة في قلبك وفي عقلك.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
أعلى الصفحة