الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
حين يتعاون الصمت والكلام
خطبة الجمعة للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في الجامع الأموي الكبير بحلب
15/10/2010
 
مشاهدة /video/
ملف نصي   استماع ² عرض تقديمي
حينما نريد تأثيرًا إيجابيًا على مستوى سيادة النهضة وإيجاد الحيوية، فإننا لابد أن نعي ثنائيةً مهمة، وهي ثنائية السكون والحركة، فكل حركة هي بحاجة إلى سكون، وكل سكون هو بحاجة إلى حركة، وهذا تابع لنظام الزوجية الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، وهو القائل:
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]

لكن الإنسان يميل إلى رؤية الحركة ويغفل عن حاجته إلى السكون، ويميل إلى الكلام ويغفل عن حاجته إلى الصمت، ويميل إلى الحركة ويغفل عن حاجته إلى البركة..
وعندما نُفكّر بالتغيير، أو الإصلاح، أو دفع أمتنا إلى اتجاهٍ تربويٍّ إيجابيّ، فإننا غالبًا نتعلّق بالتعبير ونبحث عنه، ولربما غفلنا عن زوجه المرافق له وهو التنوير، والتعبير من غير تنوير يبقى ضعيفًا.
فعندما نريد التغيير نبحث عن المتكلّمين باللغة الفصيحة، ولكننا قد نغفل عن سرّ الصامت المُحرِّك للفصحاء.
ولكي نفهم هذا أُذكِّر بالثنائية التي ذكرها القرآن الكريم عندما حكى لنا عن رسولٍ كريم هو سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، وموسى عليه الصلاة والسلام كان يميل إلى الصمت أكثر من ميله إلى الكلام، وهو الذي طلب من الله سبحانه وتعالى أن يُرسل معه أخاه هارون، لأن هارون عليه الصلاة والسلام كان أكثر كلامًا منه، وكان أكثر تعبيرًا منه.
فاجتمعت القوة الصامتة المملوءة خشيةً وتعظيمًا وإجلالاً لله تبارك وتعالى في قلب موسى عليه الصلاة والسلام، مع العبارات الفصيحة المبيِّنة الشارحة عند هارون عليه الصلاة والسلام.
ولما اجتمع سكون موسى مع حركة هارون، ولما اجتمع تنوير موسى مع تعبير هارون عليهما الصلاة والسلام وعلى نبيّنا أفضل الصلاة وأكمل التسليم، انطلقت الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
ولابد ونحن نتحدث من معين القرآن الكريم أن نقرأ بعض النصوص الشارحة لهذا المعنى:
ومما حكاه القرآن الكريم عن موسى عليه الصلاة والسلام:
{إِذْ قَالَ مُوسَى لأًهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ، فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 7-9]

وهكذا كانت حادثة إرسال الله تبارك وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام محفوفة بالمعاني، وكانت مليئة بالأنوار والأسرار.
وفي هذا النصّ حَارَ المُفسِّرون، وغَاصَ واستغرق أهل الألباب، وهم يستمدون من معنى قوله تعالى:
{أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
فمن هذه المعاني ومن هذه التجلّيات مُلئ موسى عليه الصلاة والسلام إجلالاً وتعظيمًا وخِيفة وخَشية، ومن تَتبّع في القرآن الكريم سيرة موسى عليه الصلاة والسلام وجد أن أكثر المفردات التي تحيط بشخصية موسى عليه الصلاة والسلام كانت مفردةَ الخوف، فكان كثير الخوف، كثير الخشية، كثير الإجلال...
وعندما وصفه النبيّ صلى الله عليه وسلم حينما رآه في المعراج وصفه فبدى في هذه اللوحة التي بيّنها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ساكنًا صامتًا يغلب عليه الغضب لله تبارك وتعالى، والخيفة والخشية منه.
هذه هي شخصية سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، الذي أكثر من الصمت حتى صار الكليم، فكلّمه الله تبارك وتعالى، لأنه أراد أن يكون مُستمِعًا، وما نَطَق سيدنا موسى إلا بما أوحاه الله تعالى إليه وأمره بتبليغه.
أما هارون عليه الصلاة والسلام فإنه كان يشرح ويُبيّن، فكان فصيح العبارة.
وهكذا نقرأ في نصٍّ آخر عن موسى عليه الصلاة والسلام وهو يطلب من ربّه ويقول:
{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 34-35]

وهكذا اجتمع العنصران: التنوير والتعبير، فاجتمع عنصر الخَشية والحال الذي يستغرق في حضرة الله تبارك وتعالى، ومعه اللسان المُعبِّر الفصيح المُبيِّن.
لكن الذي ينبغي أن نتوقف عنده قبل أن نخلُص إلى الدرس الذي نريد منه منهجًا، أن موسى عليه الصلاة والسلام عندما ذهب إلى المناجاة وكان في حضرة الله تبارك وتعالى يسمع كلامه العظيم، ما الذي حصل؟
الذي حصل أن بني إسرائيل توجّهوا إلى عبادة العجل، مع أن هارون الذي هو أفصح لسانًا، والذي هو صاحب التعبير، وصاحب التبيين، وصاحب الشروح... فمع أنه كان يخاطبهم ويُبيّن لهم ويُعبّر بكل العبارات، لكن بني إسرائيل لم يكن تأثّرُهم من عبارات هارون على مستوى تأثّرِهم من صمت موسى عليه الصلاة والسلام.
وهكذا حكى القرآن الكريم: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ، أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا، وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}

فأخبر القرآن أن هارون وقت الفتنة لم يكن صامتًا، لكنه كان يلاحقهم بالعبارات، وكان يلاحقهم بالتبيين والشرح، وكان يُظهر لهم كل العبارات التي يحتاج الإنسان عادة إليها.
ثم قال تعالى: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 87-91]

ولكن لماذا لم تكن العبارات وحدَها كافية عندما حكى لنا القرآن عن وجود جزءٍ من هذه الثنائية (التنوير والتعبير)؟
ولماذا لم يكفِ ذلك التعبير عندما غاب المُمِدّ المرسل صاحب الحال، الكليمُ المستغرق في جلال الله، سيدُنا موسى عليه الصلاة والسلام؟
لماذا ظهرت الفتنة مع وجود العبارات، ومع وجود الشرح والتبيين..؟
وهكذا ومن خلال هذا الدرس القرآنيّ أقول:
إننا في واقعنا على المستوى التربويّ الإسلاميّ يغلب أننا نبحث عن الخطباء، ونبحث عن المتكلمين، ونبحث عن صاحب العبارات الفصيحة، ونبحث عن المناهج المُفنَّدة التي بُيِّنت وصُنِّفت وحُقِّقت ودُقِّقت...
ولكننا ربما ونحن نُرتّب من أجل أن تكون ساحتنا الاجتماعية ساحة نظيفة طاهرة، بعيدة عن الجريمة، بعيدة عن العيوب التي يندى لها الجبين، نبحث غالبًا عمن يتكلم بالعبارات الفصيحة، وربما غفلنا عن الجانب الآخر من هذه الثنائية، أعني جانب الصمت مع الكلام، وجانب السكون مع الحركة، وجانب التنوير مع التعبير.
وعندما لا يوجد هذا الجانب الآخر عند ذلك سوف نبحث عن المتحركين ولو كانت حركتهم نفاقية، وسوف نبحث عن الخطباء والفقهاء حتى ولو كانت تعبيراتهم لا تنبعث من القلوب.
إذًا: لابد في منهجنا التربويّ من تدعيم البركة مع الحركة، ومن تدعيم التنوير مع التعبير..
لابد لنا أن نرجع إلى هذا الحال..
لابد لنا أن نبحث في بيئتنا الاجتماعية والتربوية، وفي بيئتنا التوجيهية والدينية، عن عنصر الحال الذي من خلاله توجد الخشية..
وما قيمة عباراتنا الفصيحة إذا غبنا عن تعظيم الله وإجلاله؟
وما قيمة عباراتنا الفصيحة إذا كنا غافلين عن الله بقلوبنا؟
وما قيمة الخُطب الرنانة إذا كانت أحوالنا نفاقية؟
وما قيمة الكلمات البليغة إذا كانت لا تصحبها روحٌ فيها المحبة والخشوع، ولا تصحبها دمعات العين، ولا يصحبها إخباتٌ وقنوتٌ وتوجّهٌ إلى الله يكون فيه العبد مُستغرِقًا في حضرة الله؟
نحن أمة لا تنتصر بالعبارات..
ونحن أمة لا تنفعها الخُطب الرنانة، إنما ينفعها إيمانها وثقتها بالله وتعظيمها لله.
وسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان من الصامتين والمكثرين للإجلال والتعظيم في حضرة الله، وكان مصحفًا وهو الذي جمع المصحف، وكان قرآنًا وهو المُستغرِق في حضرة القرآن، وعندما صعد المنبر بعد أن ولاّه المسلمون الخلافة لم يُخرج من لسانه تعبيرًا ولا كلمة، فقد أُرتِجَ عليه ولم يكن قادرًا على أن ينطق بكلمة واحدة، فنـزل رضي الله عنه من المنبر وقال: سترون خيرًا مما تسمعون.
والمُعوَّل على أن نكون القدوة في الأحوال والأخلاق والأفعال، لا بالخُطب الرنانة، فهذه يجيدها الجميع، لكن علينا أن نوجد المنهج الذي فيه البركة وفيه التنوير، لنكون في أخلاقنا أصحاب اقتداء بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولنكون في أفعالنا أصحاب اقتداء بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولنكون في أحوالنا أصحاب اقتداء بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لا أن نكرّر العبارات وحدها.
وبوجود الصمت والكلام، والتنوير والتعبير، والحركة والبركة... يحصل التغيير.
وجّهوا قلوبكم إلى الله، فإن بتوجّه القلوب إلى الله يحصل سِرٌّ عظيم، وتتنـزل نُصرة الله، ويتنـزل تأييد الله، وتتنـزل الملائكة خادمة لكم، وذلك إذا كنتم خَدَم الله.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.

أعلى الصفحة