الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
حقوق المسلمين على المسلمين
خطبة الجمعة للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في الجامع الأموي الكبير بحلب
1/10/2010
 
مشاهدة /video/
ملف نصي   استماع ² عرض تقديمي
جاء في الحديث المتّفق عليه عن سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ).

والذي يتأمل هذا الحديث تأمّلاً سطحيًّا ولا يقف عند عمقه التربويّ يرى فيه ممارساتٍ شكليةً يؤديها المسلم في معاملاته مع أخيه المسلم.
ولكننا حينما نتأمل هذا الحديث في بعده التربويّ، وحينما نقرؤه قراءة مندرجة في مفهوم بناء المجتمع وتكوين الإنسان، فإننا نرى أننا في واقعنا الحاضر العمليّ بعيدون تمامًا عن مفردات هذا الحديث، لأن هذا الحديث يؤسس لمجتمع إسلاميٍّ متماسك يؤسس لبناء إنسان مسلم يعبر حقيقةً عن الإسلام.
هذه الأمور الخمسة التي أمرنا بها حبيبنا وسيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تمثل منظومة اجتماعية روحية إيمانية شعورية.
1- أما الحقّ الأول الذي هو ردُّ السلام:
فإنه تابع لمبادرةٍ أخرى، فقد أمر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الأمة بإفشاء السلام، وإفشاءُ السلام كما ورد بروايات متعددة وبألفاظ متقاربة يعني أن المؤمن يعلن بلسانه عن عقد وعهد.
فحين يقول: "السلام عليكم" فإنه يقول لإخوانه من حوله في المجتمع الإسلاميّ: "الأمان عليكم"، أي: لن يصدر مني إلا ما يتناسب مع الأمان الذي يصلكم ويكون من حولكم، فلن يصدر مني إيذاء أو إضرار.
إذًا: حين يقول: "السلام عليكم" فإنه يعلن أنه مصدر أمان للمجتمع، ويعلن لأخيه الذي يسلّم عليه أنه مصدر طمأنينة وأمن له، ولا يمكن في حال من الأحوال أن يكون مصدر إضرار أو إيذاء، لأننا أمة تعلن ما تعتقد، ولا تتناقض أقوالها مع أفعالها وأحوالها.
والله سبحانه وتعالى هو الذي قال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3].

فحينما يقول: "السلام عليكم" فإما أن يكون في قوله هذا صادقًا أو كذّابًا وذلك بأن يكون قائلاً ما لا يفعله، ويقول ما لا ينفذه على المستوى العمليّ.
فهو يقول لأخيه: "السلام عليكم" وهو يلتقي معه، لكنه بعد ذلك ينال منه، وينال من عرضه، ويقع في غيبته، ويقع في نميمته، ويقع في الكذب عليه، ويقع في الغش والاحتيال عليه... ويقع فيما لا يتناسب مع أخلاق الإسلام.
فهذا كذاب وهو يقول: "السلام عليكم"، لأنه يقول بلسانه: "السلام عليكم"، أما أفعاله فإنها تقول: "الضرر عليكم"، "الإيذاء عليكم"، فكلّ ما يؤذيكم حسًّا ومعنًى يصدر مني ولكنني أستتر خلف هذه الكلمة العظيمة وأقول: "السلام عليكم" ولا صلة لي بهذه الكلمة أبدًا.
فمن بادَرَكَ أيها المسلم وكان سببَ أمنٍ وأمانٍ لك ولم يقع منه إيذاء أو إضرار، فإيّاك ثم إيّاك ثم إيّاك أن لا تكون ممن يردّ السلام عليه.
إياك أن تقابل المحسن إليك بالإساءة..
إياك أن تقابل من أمّنك بالسلام بالإضرار والإيذاء..
إياك أن تنال ممن لا ينال منك..
إياك أن تشتم من لا يشتمك..
إياك أن تكون سبب ضرر فيمن لا يضرّ بك... فهذا يتناسب مع غير المسلمين.
المسلم الذي يتناسب مع إسلامه يرد السلام، ولا يكون مؤذيًا لمن أحسن إليه، ولا يكون مزلزلاً لمن أمّنه.
وهكذا بين إفشاء السلام وردّه تكون الحركة الإسلامية في المجتمع الإسلاميّ حركةً منتجة وفاعلة ونافعة، ولا تكون في حال من الأحوال سبب إضرار.
وقد تتوقف حركة المسلم لسبب من الأسباب (والتي أشهرُها مرضه)، وحركته تلك كانت تنفعه وتنفع المجتمع، فتجلب الرزق له وللمجتمع، وتجلب النفع له وللمجتمع، وتجلب الفوائد له وللمجتمع، لكن حركته هذه حينما توقفت بقَدَرِ الله تبارك وتعالى فإن المجتمع الإسلاميّ يكون نائبًا عنه في حركته.
ومن هنا جاء الحقّ الثاني الذي يغيب عن أذهاننا وهو:
2- عيادة المريض:
التي تحولت اليوم إلى ممارسات شكلية، فيأخذ أحدُنا صندوق الحلوى ثم يذهب إلى أخيه وهو يغيب عن هذا المعنى.
فهذا أخوك في مجتمعٍ من المفترض أن يكون متكافلاً، كان متحركًا ونافعًا في حركته وحيويته، فلما توقفت حركته تركه المجتمع؟! هذا ليس بمجتمع إسلاميّ، لأن المجتمع الإسلامي مجتمعٌ متضامن متكافل.
ومن هنا جاءت عيادة المريض من أجل تفقده، ومن أجل معرفة ما ينقصه من المال، وما ينقصه من الإيناس، وما ينقصه من الحسّ أو المعنى... لأنه عضو في المجتمع، وعضوٌ في الجسد الذي مثّله النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المثال الرائع حين قال: (إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).

هل هذا هو حالنا يا أمة الحبيب المصطفى؟ أم أننا نعيش الـ: "أنا" والفردية، ونعيش الانقطاع بدلاً من التماسك، ونعيش الفرقة، قد أصبح جسد مجتمعنا مفككًا مقطّعًا، وانعدم التواصل الشعوريّ فيه.
وهذا هو الحقّ الثاني الذي يظهر من خلاله تفقّد المجتمع للفرد فيه، الذي توقفت حركته بعد أن كانت حركة قوية ومنتجة ونافعة.
3- اتباع الجنائز:
وهكذا يأتي الأمر الثالث الذي هو الاشتراك الشعوريّ.
إنه اتباع الجنائز الذي تواسي فيه أهل الميت، وتواسي فيه أخًا لك في الإسلام قد فقد حبيبه، وفقد من يعزّ على قلبه، وهو في حالة من الكآبة، وفي حالة من الغم والحزن...
أيتحمل حزنه وغَمّه وحده؟!
ما هذه بأخلاق الإسلام.
وهكذا كان من الواجب على المجتمع الإسلاميّ أن يشارك هذا الحزين، وهذا المكتئب في كآبته.
ومن العادات القديمة التي كان عليها آباؤنا وأجدادنا أنه عندما يُتوفى في الحيّ أحدُ أفراده كانت تتوقف الأفراح فيه مدة طويلة، لكن هذا كان عندما كان جسد مجتمعنا حيًّا، لكننا اليوم في عصر اللامبالاة الشعورية التي نتشرنق فيها حول ذواتنا، ولا يشعر الواحد منّا بأخيه، إنما نعاني من الاختصام، ونعاني من التباغض، ونعاني من الحقد، ونعاني من كيد وكيل وتنفيذ للمؤامرات الخسيسة التي يترفع عنها أهل الإسلام والإيمان...
4- إجابة الدعوة:

أخوك الذي شعر بالشتات وشعر بالفرقة أراد أن يجمع إخوةً له في الإسلام على الطعام.
والاجتماع على الطعام ليس من أجل تناول الطعام وحسب، فعندما يدعو أحد المسلمين إخوانه على الطعام فإنه يدعوهم إلى مائدة ثقافية، ويدعوهم إلى مائدة اقتصادية، ويدعوهم إلى مائدة اجتماعية، ويدعوهم إلى تشاركية... لأن الذي يجلس مع أخيه فيأكل معه فإنه يشاركه وهو يتناول الطعام في الحديث والثقافة والشعور، وهذا يؤسس لعلاقلات متينة.
ومن هنا كان من الواجبات التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إجابة الدعوة، لأنها موقف إيجابيّ مع صاحب مبادرة إيجابية.
5- تشميت العاطس:

أَوَصَلَ الإسلام بنا في رُقيّنا الحضاريّ إلى مرحلة أصبح فيها يُلزم المسلم بملاحظة حركات أخيه المسلم؟
أوصل الرقيّ الحضاريّ بهذا الإسلام العظيم أنه ألزم المسلم بمتابعة أحوال أخيه حتى وهو في عُطاسه؟
فإذا جاع أخوه يكون معه، وإذا أصاب أخاه سعالٌ يكون معه، وإذا أصابه مرضٌ يكون معه، حتى وهو في عطاسه يغتنمها فرصةً ليدعو له، لينبهه أنني في المبالاة والرعاية لك، لا في اللامبالاة.
وحتى نفهم هذا أقول لكم: انظروا إلى الأم التي ولدت وليدها وإذا هو بعد ثلاثة أيام يُصاب بعطاسٍ لمرة واحدة، وانظروا إلى هذه الأم ما الذي يصيبها؟
إنها تحسب عند ذلك ألف حساب، لعله سيصاب بالزكام، ولعل بعد الزكام يصيبه مرض في صدره، أو آفة تمنعه من التنفس... وتبدأ حسابات الأم.
لماذا، وقد يكون هذا مجرّد عطاس طبيعيّ يُخرج به الطفل الأذى من أنفه؟
إنها عاطفة.. إنه شعور..
إنه إحساس كِدنا أن نغيب عنه، إذ من الأصل الذي رسخه الإسلام في مجتمعنا أنه حوّل كل فرد من أفراد المجتمع إلى أم وأب لأخيه، وأعطانا نموذجًا من خلال السيدة خديجة رضي الله عنها التي كانت زوجة وأختًا وأمًّا وبنتًا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وأعطانا نموذجًا من خلال أخيه وصاحبه أبي بكر الذي كان يراقب حركات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وأعطانا من النماذج الكثيرة من ملاحظات حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم التي كان يلاحظها في أصحابه فيسألهم عن الذي اخشوشنت كفه، وعن الذي أطرق حزينًا، حتى الطفل الصغير الذي رآه حزينًا عندما مات عصفوره، وهو يعاني من الكآبة بعد فقده، فيشاركه رسول الله ويقول له:
(يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟).

أين نحن حين نقول: نحن مجتمع الإسلام؟
أين نحن من هذه المعاني وكلٌّ منّا أصبح بعيدًا عن أخيه، لا يعرف لرابطة الإسلام معنًى؟
عدنا إلى الجاهلية التي كانت الروابط فيها روابط العرق والنسب، وروابط المصلحة والمال، أما الرابطة الإسلامية المعنوية التي منّ الله على المجتمع الأول بها عندما قال: {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]
فإنها كادت تغيب عن مجتمعنا يا أحباب رسول الله.
عودةً إلى الإسلام بحقائقه ومعانيه..
وكم نقرأ القرآن ونقرأ حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام قراءةً سطحية عابرة لا نرى فيها من هذه المعاني شيئًا، إنما نحرك ألسنتنا بقراءة الحديث وقراءة القرآن، أما سلوكنا وأفعالنا وأحوالنا فإنها بعيدة...
وما هكذا أراد الله تعالى منّا، إنما أراد منّا أن نكون الأمة الواعية الفاهمة التي تعي، وبعد ذلك تنفعل لما وعت.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
أعلى الصفحة