الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
وحدتنا أماننا
خطبة الجمعة للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في الجامع الأموي الكبير بحلب
24/9/2010
 
مشاهدة /video/
ملف نصي   استماع ² عرض تقديمي
يتعجب المتأمل حينما يتأمل في واقعنا الإسلاميّ فيجد فيه شتاتًا..
يتعجب لماذا يحصل الشتات والقرآن العظيم نقرؤه جميعًا، وما تفرقنا في الكتاب، ولا يقرأ أيٌّ منّا إلا كتاب الله تبارك وتعالى؟
لماذا يكون الشتات والكعبة التي نتوجه إليها كعبة واحدة، وهي قبلتنا وليس لنا دونها من قبلة؟!
لماذا يكون الشتات ونحن نـزعم جميعًا أننا نعبد الله الواحد ولا نعبد غيره؟!
لماذا يكون الشتات ونحن نـزعم جميعًا أن إمامنا وقدوتنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه الله تبارك وتعالى ليكون هاديًا وقدوة ومرشدًا ونموذجًا للإنسان الكامل؟!
هذه أسئلةٌ نتساءل جميعًا كلَّ يوم فيما يدور في فلكها ومعناها.
ولو أننا تأملنا ونظرنا نظرة تربوية، ونفذنا من سطحية المفهومات إلى عمق الحال، لوجدنا أن القضية تكمن في بواطننا:
* فإما أن تهيمن علينا الروح النقية الزكية الملكوتية النورانية التي لا تتعلق إلا بربها، والتي لا تنجذب إلا إلى حضرة كمال ربها، والتي إن زعمت أنها تقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم كان زعمها محقًّا لأنها تنجذب إلى نوره الكريم الشريف، وإن توجّه جسدها إلى الكعبة المشرفة فإنها ستبقى ملاحظة لعظمة ربّ هذا البيت، وإذا وقفت بين يدي القرآن العظيم استمدت من أنوار تجلياته وتنـزلاته...
وعندما تكون الروح النقية الزكية ظاهرة في تجلياتها في بواطننا فإن تجانُسَ الأرواح وصفاءها ونقاءها سوف يؤلف بين دولة الأشباح، وسوف يجمع السلوك الذي تتحرك به الأشباح.
* وإما أن تُهيمن علينا النفوس التي تكدّرت، وأخلدت إلى الطين، وقيّدتها شهواتها وأهواؤها وأمزجتها، والتي تتشعب بأصحابها في الآراء والأهواء...
فلو أن هذه الروح هيمنت ستتألف الأشباح، ولكن حينما تهيمن النفوس التي فيها كل الرعونات سيبقى كلٌّ متشبّثًا برأيه، وستكون في مجتمعاتنا التي تنتسب إلى الإسلام صورةُ أهواءٍ مفرقة، وسيكون الشحّ المطاع والهوى المتبع، وسيكون إعجابُ كلِّ ذي رأيٍ برأيه... وحينما يعجب كل ذي رأي برأيه فإن من المستحيل أن تتلاقى الأشباح في سلوكها.
إذًا: ليست المشكلة أننا نختلف في دعاوينا، فدعاوينا واحدة:
فكلنا يقول: ربّنا هو الله الواحد..
وكلنا يشترك في دعوى: كتابُنا المشترك هو القرآن..
وكلنا يشترك في دعوى: قبلتُنا هي الكعبة..
وكلنا يشترك في دعوى الانتماء والانتساب إلى سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم..
لكن السؤال الذي يختصر كل هذه القضايا هو:
هل هذه الدعاوي انطلقت من بواطننا؟
هل عبرت عن بواطننا، أم أنها تحرّكت بحركات الألسن أما الحال فإنه متناقض تمامًا مع ما تقوله الألسن؟
فليسأل كلّ واحد منّا نفسه حينما يدّعي هذه الدعاوي، وحينما يزعم أنه من أمة التوحيد، وعندما يصدق في الجواب سوف يدرك الطريق الذي تتّحد فيه القلوب، وتجتمع فيه الكلمة، ويُلَمُّ فيه الشمل.
وإن كنّا نتحدث بلسان بواطننا الطاهرة النقية الذكية فلا مشكلة، وسيكون الشتات بعيدًا عنا، وستكون وحدة الكلمة رائدَنا، ولكن إذا كانت بواطننا في رعوناتها النفسانية، ولا نعرف معنى صفاء الروح ولا نقاءه، إنما نتكدّر برعونات النفوس وبالأهواء والآراء، عندها سنبقى مشتّتين وفي حالة من الاضطراب.
وقبل أن أختم لابد أن نقرأ نصًّا من كتاب الله تبارك وتعالى يحدثنا عن هذه القضية بالضبط، ويحدثنا عن المشتركات التي تجمعنا، لكنه يتحدث عنها بما ينبه البواطن.
ولماذا قال المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث:
(لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)؟
هل كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يتحدّث عن مسلمين ارتدّوا فأعلنوا كلمة الكفر، أم أن الحال أنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يتحدّث عن الذين تناقضوا ما بين الدعوة الظاهرة والحال الباطن؟
(لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) أي: تختصمون في الظاهر وتتناقضون ويكون سلوككم مضطربًا، وهذا يرجع إلى معنًى باطن، ولهذا قال سبحانه وتعالى:
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}

ولا يمكن لنا أن نفهم هذه الآية حتى نسمع الحديث: "لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا".
فهو سبحانه وتعالى عندما يقول: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} فإنه يتحدث عن التناغم والانسجام الذي يحققه الإسلام، والمعنى: وأنتم مستسلمون في بواطنكم لله تبارك وتعالى، وهذا هو السرّ الذي يجمعكم.
ثم قال بعدها:

- {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا}
وشتّان بين من يتحدّث عن المصحف الأوراق، ومن ينظر إلى القرآن العظيم على أنه حبل الله، وهل الأجساد هي التي تتعلق بحبل الله أم الأرواح هي التي تتعلق به؟
وكيف تفهم القرآن أنه حبل الله وأنت لا تراه إلا أوراقًا مجموعة بين دفتي المصحف؟
حبل الله إنما هو المستمسَك القويّ من التوحيد الذي تنجذب إليه الأرواح، فإذا انجذبت الأرواح إلى سرّه تعلّقت بالله تبارك وتعالى.
وهكذا يكون القرآن موحِّدًا، وذلك عندما تتعلق به الأرواح، لا عندما تُكثر الألسن من تلاوته، فقد تحدّث الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عن قومٍ يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم.
وكم منّا من يقرأ القرآن ويكثر من قراءته ويعيد ختمه مرّات ومرّات لكن روحه لا تتعلق بحبل الله!
ثم قال:
- {وَلاَ تَفَرَّقُواْ}
إذًا: سرّ التفرّق أن الأرواح لم تتعلق بحبل الله، فإذا تعلّقت بحبل الله لا تتفرق.
- {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء}
كنتم أعداء بنفوسكم وبأهوائكم وبشتاتكم وباجتماع نفوسكم على المتفرقات... فكلٌّ تنجذب نفسه إلى ما تهواه.
- {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}
فانتقلتم من حُكم النفوس إلى حكم القلوب.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]
وكم من الناس من لديه أزمة قلب! لأن الذي يحكمه إنما هو نفسه، وهو بعيد عن حكم قلبه.
- {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ}
وأنتم في شتاتِكم وفُرقتِكم وإعجابِ كلِّ ذي رأي برأيه..

- {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا}
بسر انجذاب أرواحكم إليه.
- {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
وشتّان بين التبيين وما تراه العين الباصرة من الحروف في أوراق المصحف.
قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]

فإذا وصل سرّ القرآن إلى صدورنا نتّحد، لكن إذا تاجرنا بتلاوة الحروف، وحالُنا بعيدٌ كل البعد عن حبل الله، وعن البينات التي بيّنها لنا ربّنا تبارك وتعالى... تَفَرَّقْنا.
- {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}
فإذا أردتم دوام هذا الحال الذي حصل فيكم فلتكن دعوتكم إلى الخير، والخيرُ لفظة مختصرة تعبّر عن الدين بأركانه الثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان.
والخير الذاتيّ هو دين الله، ودينُ الله إسلامٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، فما دعا إلى الخير من لم يدعُ إلا إلى أحكام فقهية، وما دعا إلى الخير من لم يتحرك لسانُه إلا بفلسفات عقلية.
فالدعوة إلى الخير دعوةٌ إلى الدين بشموليته: بإسلامه وإيمانه وإحسانه، بأقواله وأفعاله وأحواله، فإذا حصلت هذه الدعوة الصادقة التي تنبعث عن الصدق، عندها تظهر هذه الأمة التي تدعو إلى الخير.
- {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

فما كانوا أصحاب استمساكٍ بحبل الله وحده وحسب، إنما كانوا مع استمساكهم بحبل الله ينقلون ما كان فيهم من صدق، ومِن توجُّهٍ إلى الله، ومن استقامة... إلى الناس حتى ينتشر النور في الأرض.
- {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
وعنى بهم مَن كان قبلنا من الأمم السابقة التي تشبَّثت بالأحكام ولكنها غفلت عن أسرار مُنـزل الأحكام، وغفلت عن أنواره وتجليّاته وعظمة وحدانيته التي تجذب الأرواح... فإذا انجذبت إليها الأرواح زالت الفرقة وزال الشتات.
- {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 102-106]
وهناك تظهر أحكام الباطن إلى الظاهر، فمن كان قلبه مظلمًا أظلم يومَها وجهُه، ومن كان باطنُه مشرقًا أشرق يومَها وجهُه.
ولذلك يُكثر أهل الإيمان في ذلك الوقت من قولهم: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8]

لأنهم ينظرون إلى هذا السرّ والارتباط بين الظاهر والباطن..
لا نجاة لنا من الفرقة والشتات حتى نصحّح وجه قلوبنا..
ولا نجاة لنا من الشتات الذي نعاني منه ومن إعجابِ كلِّ ذي رأي برأيه حتى تكون البواطن مشرقة بالأنوار، فإذا أشرقت البواطن بالأنوار عند ذلك تتغير أحوالنا وتجتمع كلمتنا، فلا ينبغي أن نقف مع الظواهر لأنها إنما هي نتائج إشراق البواطن.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
أعلى الصفحة