الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Symposia الندوات
 
الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
ملتقى الدروس المحمدية - الجزائر-وهران
20-8-2010
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني  
حين نفرد للإعجاز العلمي حديثا مقتضبا ومختصرا، فإننا لا نقصد منه الحصر والإحصاء، لكننا نذكر بعضا من جوانبه من باب اقتباس الأمثلة ليس إلا..
كما أننا لا نقصد من خلاله إدخال الإيمان إلى قلوبنا بصدق المصطفى صلوات الله وسلامه عليه فيما ينقل عن ربه، فصدقه صلى الله عليه وسلم أظهر من أن يُدلل عليه:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
لكنّ الكلام على ما يسمى إعجازا علميا يصدمُ العقول التي بهرتها التجربة المادية المعاصرة، وشغلها الاستغراق في السؤال بكيف؟ عن واجب السؤال بلماذا؟ فوقفت مع الكيفيات، ونسيت مقاصد الوظائف، وغاياتها، وحِكَمَها، وغفلت عن يد القدير المبدع لتلك الكيفيات والمقاصد.
وأصل كلمة العَجْز من الضعف وعدم القدرة، ومعنى عَجَزَ يَعْجِزُ عن الأَمر: أي قَصَرَ عنه.
والمُعْجِزَةُ: خارقُ عادة يظهر على يد رسول بعد بعثته ، لا يقدر أحدٌ على معارضته والإتيان بمثله، مقرون بتحدي الرسول للناس فيه، فيكون دليلا على صدقه في دعواه أنه رسول الله.
والخلاصة أنَّ الإعجاز إثباتُ العجزِ البشري أمامَ قدرة القدير الواحد، و الإعلامُ بعجز المخلوقِ وفاقته في حضرة خالقه.
فتارة يظهرُ العجز البشري لغويا بين يدي القرآن العظيم كعجز البشر عن الإتيان بسورة من سور القرآن ولو كانت السورة الأقصرَ في الألفاظ.
وتارة يظهرُ العجز بصورة استحالةِ إتيانِ البشر بفعل يشبه معجزةً عمليةً من معجزات الرسل كشق القمر ونبع الماء من بين أصبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتارة يظهرُ العجز علميا فيعجِز البشر عن معرفة مضمون خبرٍ قرآني أو نبوي بحقيقة كونية إلا بعد بحث طويل وتجربة وتمحيص، ومثل هذا الخبر المعجز لا يكون مصدره إلا ربانيا ينقله الرسول عن علم الله تعالى لأنه لم يتحدث في تلك الحقيقة بعد بحث وتنقيب، أو استعمالٍ لوسائل البحوث المتنوعة التي قد يستغرق الإنسان للوصول إليها زمنا طويلا، بل نقله ذلك الرسول عن وحي أوحي إليه به.
وفي هذا البحث سوف أقتطف قطوفا من بساتين الإعجاز العلمي، مُشَوِّقا ومُذَوِّقا لا ساقيا ولا مطعما، والله المستعان وهو ولي التوفيق.

أنقل المثال الأول مثالا من إعجاز القرآن في عوالم الأرض اليابسة:
قال تعالى:
{الم, غُلِبَتِ الرُّومُ, فِي أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ, فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ, بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[سورة الروم: 1-5]
فقوله تعالى: (أدنى) يحتمل في اللغة معنيين اثنين: أقرب، وأخفض.
وقد ذهب أكثر القدماء من المفسرين إلى التفسير بأقرب.
واتفقوا على أن الموقعة المذكورة في هذا النص كانت في أرض الشام.
ونقل القرطبي عن مقاتل: أنها كانت بالأردن وفلسطين.
لكنَّ البحوث المعاصرة تقودنا إلى ترجيح المعنى الثاني وهو الأخفض.
فقد بينت الدراسات الجيوديزية أن أخفض منطقة على سطح الأرض اليابسة هي المنطقة التي دارت فيها المعارك بين الروم والفرس وهي بالقرب من بيت المقدس بجانب البحر الميت ويبلغ عمقها أربعَمائةِ متر تقريبا تحت سطح البحر.
وهو مؤيدٌ لتفسير (أدنى بأخفض).
فيكون هذا التفسير للنص القرآني وجها من وجوه إعجاز الخبر القرآني، فمن الذي كان يعلم أن الأرض التي أشار إليها نص القرآن هي أخفض مكان على سطح اليابسة؟ تبارك الله العليم الحكيم القائل: {غُلِبَتِ الرُّومُ, فِي أَدْنَى الأَرْضِ}.
وأذكر المثال الثاني مثالا من إعجاز القرآن في عوالم البحار والأنهار:
قال تعالى:
{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} [الفرقان:53]
وقال تعالى: { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ, بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ }[الرحمن: 19-20]
أما النص الأول فإنه يتحدث عن لقاء البحار بالأنهار، وأما النص الثاني فهو مطلق في لقاء البحار بعضِها ببعض.
فالنص الأول يخبرُ عن مصبِّ الأنهار العذبة في البحار المالحة، والنصُّ الثاني يحدث عن لقاء البحار دون تفريقٍ بين العذب والمالح، والأقربُ أنه خبرٌ عن لقاء البحر ببحرٍ آخر.
واستعمل في النصين قوله (مرج) وهو يأتي في اللغة بمعنيين: الخلط ، والحركة.
وقال في النص الأول (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ) وهو النهر العذب.
وقال: (وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) وهو البحر المالح.
وقال: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا) (وَحِجْرًا مَّحْجُورًا)
وفي تفسير قوله تعالى (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا)
قال الطبري وابن الجوزي والزمخشري: (هو حاجز لا يراه أحد)
فكان المفسرون يذكرون معنى البرزخ على أنه حاجزٌ، ولكنَّ وسائلهم رحمة الله عليهم لم تكن تعينهم على قول شيء آخر زيادة على معنى اللغة.
لكنَّ الدراسات المعاصرة أثبتت وجود حاجز مائي يحيط بمصب الأنهار في البحار.
وأنَّ مياه المصب تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
أ‌- ماء الأنهار التي تصب.
ب‌- ماء البحار التي تصبُّ فيها الأنهار.
ج- وماء المصب وهو نوعٌ ثالثٌ مختلفٌ عن النوعين السابقين وهو مزيج من الملوحة والعذوبة يفصل بين النهر والبحر، فهو برزخٌ أو حاجز.
وليس هذا الحاجز حاجزا ساكنا أو ثابتا، لكنه يتحرك بين النهر والبحر عند مد البحر وجزره أو فيضان النهر وجفافه، وهو مصداق قوله تعالى (مرج) ومصداق قوله: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا).
وهذا البرزخ المائي يحيط بالمصب ويحافظ على خصائصه ولو كان النهر شلالاً.
وفي معنى قوله تعالى: (وَحِجْرًا مَّحْجُورًا) تفيدنا اللغة أن الحِجْر والحَجْر: المنع والتضييق ، وسمي العقل حِجرًا: لأنه يمنع من إتيان ما لا ينبغي.
وفي الحديث الشريف (لقد تحجرت واسعًا) أي ضيقت ما وسعه الله.
ولم يعثر أهل التفسير على معنى يزيد على الدلالة اللغوية، وبقي الأمر خبرا ينتظر الناس لفهمه البحوثَ والدراسات التجريبية، بل إنَّ الزمخشري قال الآية: (وَحِجْرًا مَّحْجُورًا) واقعةٌ هنا على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول حجرًا محجورًا.
وجاءت الدراسات البحرية المعاصرة لتقول:
- إنّ الكائنات الحية التي توجد في الأماكن المائية الثلاثة المذكورة يختلفُ بعضها عن بعض ومعظمها لا يستطيع العيش في غير بيئته التي خلق فيها, فماء المصب حِجرٌ على معظم الكائنات التي تعيش فيه فإذا خرجت منه تموت بسبب تغير الأملاح التي تمتصها أغشيتها.
- وهذه الكائنات محجورة ممنوعة عن الكائنات التي تعيش في النهر والبحر لأنها أيضا ستموت إذا دخلتها لنفس السبب المذكور، وصدق الله تعالى القائل: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا}.
ولا يحصل لقاء مباشر بين ماء النهر وماء البحر بل يمتزجان بطيئا وتتغير خصائص الماء تدريجيا لوجود الفاصل أو البرزخ المائي المحيط.
أما النص الثاني الذي يقول الله تعالى: { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ, بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ } [الرحمن: 19 -20]
فقد أثبتت الدراسات التجريبية أن البحار المالحة ليست بحرًا واحدًا بوصف واحد بل هي بحار مختلفة في الخصائص والأوصاف، وهناك أيضا حواجز مائية تفصل بين تلك الكتل البحرية المختلفة في حرارتها وملوحتها وكثافتها وأحيائها المائية وقابلية ذوبان الغازات فيها.
فلا ينتقل الماء من البحر إلى الآخر مباشرة لكنه يفقد عند انتقاله في البرزخ المائي بالتدريج خصائصه ، ليأخذ وصف البحر الذي يدخل فيه.
كما أن هذا الحاجز المائي الذي يفصل بين البحرين يتحرك بالمد والجزر والرياح فيصدق عليه لفظ مرج، لتحرك مياه البحرين واختلاطهما عند الملتقى ، ومع وجود هذا الالتقاء والاختلاط بين البحرين {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} لأنَّ أحدهما لا يتجاوز حده ولا يطغى على ماء الآخر لوجود البرزخ الفاصل بينهما.

وأختار المثال الثالث مثالا من إعجاز القرآن في عوالم الفضاء:
قال تعالى:
{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ والأرض كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } [الأنبياء: 30]
فالفتق: الفصل، و الرتق: الجمع واللم.
قال ابن كثير: إن السموات والأرض كانتا قطعة واحدة ففتق هذه عن هذه.
وقال أبو السعود: الرتق هو الضم والالتحام أي أن السموات والأرض كانتا شيئًا واحدًا.
وبالعودة إلى بحوث الفضاء التجريبية نجد أنَّ آخر نظرية وصل إليها العلم الحديث تقول: إن الكون كان سديمًا واحدًا وانفصل إلى أجزاء ، وأنه كان كتلة واحدة من الهيدروجين والهليوم ثم انقسم بانفجار هائل إلى أقسام يقدَّر الجزء منها بمائة مليار ضعف لحجم الشمس وأن الانقسامات تتالت حتى تشكلت القوى الحرارية بسبب الدوران المتزايد السرعة ثم ظهرت أخيرا الكواكب والشمس والأرض.
ومن مؤيدات ما تقدم:
1- شدة حرارة باطن الأرض فعلى عمق ثلاثين كيلومترًا تزيد درجة حرارة باطن الأرض عن قشرتها ألف درجة مئوية.
2- انفجار البراكين في أنحاء شتى من الأرض وذلك بسبب ضعف القشرة الأرضية التي لا تتحمل الغازات والأبخرة الموجودة داخلها.
3- تأكيد بحوث الفيزياء النووية أن الأرض والشمس لهما نفس الأصول فقد استطاع الباحثون معرفة العناصر المكونة للشمس بتحليل الطيف (الكروماتوغرافيا) ـ الذي أظهر أن الشمس تتكون من نفس العناصر التي تتكون منها الأرض.
وأختم في هذا المختصر بالمثال الرابع وأختاره من إعجاز القرآن والسنة في أخبار خلق الإنسان:
قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً}‏ [الحج: 5].
قوله تعالى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ}:
أثبتت الدراسات المعاصرة أن تكوين الحمض النووي الذي هو الأصل في خلق الإنسان بدءا من خليته الأولى يستند في عناصره الأولى إلى مادة تكوينها ترابي فلا يمكن اصطناع هذا الحمض النووي ولا انقسامه ولا تكاثره إلا بوجود هذه المادة الترابية وعلى هذا فلا يكون خلق آدم وحده من تراب بل إن كل كائن إنساني قد بدأ خلقه من التراب، وبوجود هذه الحقيقة العلمية لا نحتاج إلى تأويل قوله تعالى خلقناكم من تراب بقولنا خلقنا أباكم آدم إنما يكون النص القرآني عاما في جميع الناس.
{ثُْمَّ مِن نُّطْفَةٍْ}:
ومعنى النطفة في لغة العرب (المويهة)، وهو تصغيرٌ للفظة الماء، فإذا ذكرت النطفة (التي هي تصغيرٌ للفظة الماء) أشعر التعبير القرآني الإنسان بضعفه وقلة شأنه في مبتداه، وإذا ذكر الماء من غير تصغير فيكون ذلك عادة لإشعار الإنسان بعظمة فعل خالقه حين خلقه، كقوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا} [الفرقان: 54].
ومن المعنى الأول قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى، مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم: 45-46].
ومن الخطأ تخصيص لفظ النطفة أو الماء بالرجل دون الأنثى، فالصحيح أن اللفظين ينسبان إلى الرجل والمرأة.
"إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَشِيَ الْمَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ، وَإِذَا سَبَقَ مَاؤُهَا كَانَ الشَّبَهُ لَهَا"( )
وجاء يهوديٌّ يختبر نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فسأله وقال: يا محمدُ، مم يخلق الإنسان؟ فأجابه النبي : "مِنْ كُلٍّ يُخْلَقُ: مِنْ نُطْفَةِ الرَّجُلِ، وَمِنْ نُطْفَةِ الْمَرْأَةِ"( ).
فاعتمد الحديث النبويُّ لفظة (النطفة) لكلٍّ من الخلية الجنسية عند الرجل والمرأة، ووصفت الأحاديث النبوية وصفا دقيقا كلاً من نطفة الرجل ونطفة المرأة، وهو شيء لا يمكن للإنسان عادةً وصفه بهذه الدقة إلا باستعمال المجهر المتطور، فجاء في الحديث أن "نطفةَ الرجل بيضاءُ غليظة، ونطفةَ المرأة صفراءُ رقيقة"( )
وبالرجوع إلى الحديث السابق الذي يؤكد أن خلق الإنسان يكون من نطفتي المرأة والرجل يُعلمُ السبقُ في إعجاز الخبر، فقد كانت رسومُ الأوربيين في القرون الوسطى ترسمُ نطفة الرجل محتوية إنسانًا صغيرًا كاملاً ، وهو ينقل تصور الناس حينها بأنّ الإنسان مخلوقٌ من نطفة الرجل فقط، أما المرأة فهي الوعاء الذي ينمو فيه ذلك الكائن الإنساني الصغير المكتمل خلقًا.
وما أبعد ما بين خبر الوحي الذي يحكي الحقيقة والتصور الخرافي الذي يحكي الوهم!
ولفظ النطفة في خبر القرآن يرد مشيرا إلى الخلية الجنسية الواحدة من المرأة أو الرجل، ويرد مخبرا عن ناتجِ اختلاطهما، الذي سماه القرآن الكريم (النطفة الأمشاج) ( ) أي مخلطًا من نطفتين، وذلك بقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2].
ثم تنتقل النطفةِ الأمشاج إلى محل استقرارٍ لها سماه الله تعالى (القرار المكين)، وهو الرحم، وهو مبين بقوله تعالى:
{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} [المؤمنون: 13].
والمراد بالنطفة في هذه الآية النطفة الأمشاج المذكورة في سورة الإنسان.
فإذا استقرت في سقف الرحم أو جداره فالقرآن الكريم يسميها علقا أو علقة( ).
والعَلَقُ في اللغة ما يُعَلَّق، فإذا عَلَّقْتَ في السقف شيئًا ما تقول فيه هو: (عَلَق)، وهذه المرحلة من خلق الإنسان مبينة بقوله تعالى:
{خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2].
وقوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون: 14].
تتحول العلقة بعد ذلك إلى كائن يسميه القرآن (مضغة)، والمضغة هي القطعة من اللحم، وسبب زوال تسميتها (علقة) أنها تصبحُ مستندة إلى جدران الرحم كلها، فلا يصح في مثل هذا الحال أن تبقى باسم علق أو علقة، لأنها لم تعد معلقة بل مستندة، وهو مبين بقوله تعالى:
{فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [المؤمنون: 14].
والمضغة المذكورة هي مضغة واحدة من حيث المرئيّ الذي يشاهده الناظر، لكنها في حقيقتها وتفصيل أمرها مضغتان:
- الأولى جنين مُخَلَّقٌ تمايزت خلاياهُ واختلفت، وتهيأت لتكوين الأجهزة المختلفة فيها.
- أما المضغة الثانية فهي المشيمة غير المُخَلَّقَة التي أحاطت بالجنين، تحميه من الضارّ، وتنقل إليه ما يحتاجه من الغذاء والمنافع، وليس فيها أيٌّ خلية من الخلايا التي ستتحول إلى جسمٍ بشري.
وهذا التفصيل في المضغة التي حقيقتها مضغتان مبيَّنٌ في سورة الحجّ بقوله تعالى:
{ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} ‏[الحج: 5].
وتبدأ في المضغة المخَلَّقة طلائع الهيكل العظمي بالظهور، وهو مبين بقوله تعالى:
{فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون: 14].
فالطور الذي يلي المضغة يدعى طور العظام لأن الجنين يأخذ شكل العظام بانتشار الهيكل العظمي فيه.
ويشير حرف العطف (ف) في الآية الكريمة إلى أن طور العظام ينمو بعد طور المضغة بفترة قصيرة.( )
ثم تبدأ طلائع الخلايا العضلية الهيكلية بالظهور، وهو مبين بقوله تعالى:
{فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14] وتأتي عقب مرحلة العظام مباشرة.
وهكذا جاء النص القرآني دالاً على التتابع السريع بين المرحلتين باستعمال حرف العطف (ف) الذي يفيد تعاقب الأحداث التي يربط بينها.
وتمثل مرحلة الكساء باللحم نهاية لمرحلة من مراحل نمو الكائن الإنساني لتبدأ بعدها مرحلة النشأة الإنسانية بفترة زمنية متطاولة يدل عليها استعمال القرآن حرف العطف (ثم) الدال على الترتيب والتراخي في الزمن بين الأفعال التي يربط بينها.
وفيها يتميز الجنين بنوعه الإنسانيّ عن سائر الأجنة الحيوانية، وتُنفخ فيه روحه الإنسانية، وتستمر مرحلة النشأة الإنسانية حتى نهاية الحمل وإليها يشير قوله تعالى:
{ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]،
فيظهر الشعر الزغبي على الجلد الذي يتمايز في هذه المرحلة إلى بشرة وأدمة، ويزداد حجم الجنين وتتضح الأعضاء التناسلية وتتطور العضلات الإرادية وغير الإرادية، ويظهر الجنين بعض الحركات الذاتية و الانعكاسية أي التي تظهر إذا ما نبهته بمنبه خارجي.
وتظهر الحركات الطفولية كالمص والقبض.
قال تعالى:
{وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [الحج: 5].
ولم يكن لأحد أن يصف ما في الظلمات الثلاث في بطن الأم بهذه الدقة في بيئة أمية لا تعرف البحوث التجريبية ولا علوم التشريح والأجنة، إنما هو الخبر المعجزُ الذي نقله الرسول عن الله تعالى.
إن الإعجاز العلمي لا يقف عن البر والبحر والفضاء والإنسان لكنه يتجاوز كل ذلك إلى الإعجاز في حكم التشريع وأسراره، وأخبار النصوص في الرياح والسحاب والنباتات والجبال، والجاذبية وعوالم الطير والبهائم والأنعام والحشرات، والوقاية والتطبيب والغذاء والدواء، إلى آخر ما تجده مبسوطا في موسوعات الإعجاز.
ولا يملك المتأملون في هذه الآيات إلا السجود بين يدي عظمة الله تعالى، قال سبحانه:
{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا, قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 106-107] 
أعلى الصفحة