الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
الحياة الإنسانية: مهلة ورحلة
خطبة الجمعة للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في الجامع الأموي الكبير بحلب
30/7/2010
 
مشاهدة /video/
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ² عرض تقديمي
الحياة الإنسانية مُهلةٌ ورحلة:
فهي مهلة لأنها المحلّ الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يتزوّد، فإذا طُويت صحائفه وانتقل إلى الدار فلا تَزَوُّد بعدها، وحينما يطلق لفظ الدار فالمراد الآخرة، لأن الدنيا لا يطلق عليها بالمصطلح القرآنيّ لفظ الدار لأنها ممرّ، قال تعالى في حقّ أنبيائه وأصفيائه: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46]
أي اختصّهم الله تبارك وتعالى بخصوصية، فكان ذِكرُ الدار الآخرة حاضرًا في قلوبهم لا يغيب عنها أبدًا.
ومن هنا كانت حياتنا هذه مهلةً.
وهي بعد ذلك رحلة حينما يتأمل الإنسان مبتداه إلى منتهاه.
ولكن مشكلتنا هي أننا نغيب عن معنى المهلة والرحلة، فنُكثر من ذكر عاداتنا وأفعالنا ونِسَبِنا، ونكثر من ذكر ما نفخر به من المحسوس...
وهكذا قال الله سبحانه وتعالى وهو يشخّص هذه المشكلة في سورة عبس:
{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} [عبس: 17-22]

وهكذا لخّص القرآن الكريم بألفاظ مختصرة المهلة والرحلة.
- {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}

و"كَفَرَ" في اللغة معناها "سَتَرَ"، أي: ما أكثر سَتر الإنسان لأفعال الله تبارك وتعالى ونعمه وعطاياه! وما أكثر ستره لفضل الله تبارك وتعالى عليه ولإنعامه وَجُودِه الذي غمره به!
- {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}

فيا أيها المتكبر المفتخر، ويا أيها المتعالي بما أعطاه الله سبحانه وتعالى من النعم، تذكر مبتداك.. أما تذكرُ يوم كنتَ كائنًا مجهريًّا لا يُرى بالعين؟
- {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ}
وهذا إعجازٌ قرآنيّ لأنه سبحانه وتعالى أشار بهذا إلى النطفة الأمشاج، لأن النطفة اسم جنس، فالخلية الجنسية في الرجل تسمى بالمصطلح الإسلاميّ نطفة، والخلية الجنسية في المرأة تسمى في المصطلح الإسلاميّ نطفة أيضًا، لا كما وَرَدَنا في الترجمات الغربية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل هذا اللفظ في حقّ خلية الرجل والمرأة.
وقال تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ} [الإنسان: 2] أي من اختلاط نطفتين.
وهاهنا قال سبحانه: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ}.
- {فَقَدَّرَهُ}
إنه سبحانه وتعالى أراد لكل كائن إنسانيّ أن يكون على وصفٍ خاصّ: في طوله، ولونه، وفي وصفه المعنويّ، واستعداداته الخلقية... فكان كلّ شيء وكل وصف فيك من تقدير الله تبارك وتعالى لا من تقديريك، فالذي اختار لحظة ظهورك إلى الدنيا هو الله، والذي اختار ما أنت عليه اليوم إنما هو الله.
إذًا: قدّره فأعطاه وصفه الذي أراده له.
- {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}
فأخرجه سبحانه وتعالى إلى الدنيا: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9]
فيسّر له طريق الخير وأسبابه، ويسّر له كلّ الأسباب التي يمكن بها أن يكون عبدًا خالصًا لله تبارك وتعالى، وأعطاه ما تشتهيه نفسه، لكن من طريقِ أمرِه تبارك وتعالى وإذنه، لا من طريق شهواته وهواه المجردة عن أمر الله تبارك وتعالى.
فاختصر بهذا خروجَ الإنسان إلى الحياة الدنيا، واختصر المهلة كلها بهذا اللفظ المختصر.
- {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}
وذلك حينما أراد الله سبحانه وتعالى طيّ صفحاته؛ إن كانت خيرًا فخير، وإن كانت شرًّا فشرّ.
- {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ}
أي أخرجه إلى الحشر والنشور في الوقت الذي يريد سبحانه.
وهذا في سورة عبس، أما في سورة الطارق فيقول سبحانه وتعالى:
{إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ، فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق: 4-10]

- {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}
فما من كائن بشريّ خلقه الله سبحانه وتعالى إلا وقد تكفل برعايته وحفظه، وتكفل بأن يكون في ولايته ورعايته، فهو وحده رزّاقه، كما كان سبحانه وتعالى وحده خلاّقه.
وهو سبحانه وتعالى الذي تكفّل بكل شؤونه، وهو المطلع عليها في كل لحظة ووقت ونَفَس.
وبعد أن قرّر سبحانه وتعالى هذه الحقيقة، بأن الإنسان في عنايته ورعايته وحفظه ورقابته واطلاعه ونظره... قال سبحانه:
- {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ}
فيا أيها المستكبر، ويا أيها المتعالي، ويا أيها المفتخر، ويا من يرى لنفسه المزايا، ويرى لنفسه سدةً فوق الناس.. تذكّرْ أنك كائن ضعيف مخلوق، والذي رعاك ونمّاك وأعطاك وحفظك إنما هو الله.
- {خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ}
وها هنا أشار ربّنا سبحانه وتعالى تصريحًا إلى الجنسين الرجل والمرأة، لأنه لما قال: "خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ" أشار إلى الرجل، وعندما قال: "يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ" أشار إلى المرأة، لأن خروج الإنسان لا يكون إلا من بين صلب المرأة (أي عمودها الفقريّ) وأضلاعها.
فالماء الدافق من الرجل لأن ماء المرأة ساكن، فوصف المرأة السكون، ووصف الرجل الحركة.
وهكذا فإن سنة الله سبحانه وتعالى هي أن يتحرك الرجل إلى المرأة دائمًا من مبتدى الخلق.
إذًا: يخرج هذا الإنسان عندما يُكمل الله سبحانه وتعالى خلقَه من بين الصلب والترائب، أي من بين عمود المرأة الفقري وأضلاعها.
وهذا كله كان بتقدير الله تبارك وتعالى ورعايته وعنايته فمن الذي غذّى هذا المخلوق تسعة أشهر وهو في بطن أمه، وما من طعام ولا شراب؟
فالحافظ سبحانه هو الذي حفظ هذا الكائن وهو في بطن أمه، وهو الذي يحفظه بعد خروجه إلى الدنيا.
إذًا: خُلق هذا الإنسان مِن مَّاء دَافِقٍ، ويخرج هذا الإنسان مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ.
فهل انتهت القضية؟ لا..
- {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}
فهناك يوم يعود الإنسان فيه إلى الدار.
{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}.
ومتى يكون هذا الرجع؟ ومتى يرجعه الله تبارك وتعالى؟
- {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}
يوم يكشف فيه عن سرّ الإنسان.
فإذا كنت حريصًا على أن يرى الناس مظهرك الخارجيّ فتذكر اليوم الذي تبلى فيه السرائر، الذي لا ينظر الله تبارك وتعالى فيه إلى صورتك (سوداء كانت أو بيضاء، حمراء أو صفراء)، إنما ينظر إلى قلبك، والناس يختلفون في مظاهرهم الخارجية لكنهم يتفقون في قلوبهم، إما في التوحيد أو في الإنكار والجحود، لذلك قال سبحانه وتعالى وهو يصف المنافقين والكافرين: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118].
وهكذا يراجع المؤمن مسيرة رحلته ويقف حريصًا على مهلته.
- {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}
هناك يختفي الجنود ويغيب الأعوان.
ولماذا نذكر من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم المهلة والرحلة؟
لأن مشكلتنا هي أننا قد غفلنا عن معنى المهلة والرحلة، مع أنها الخصوصية التي اختص الله تعالى بها أحبابه: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}.
فإذا وُجدت في القلوب هذه الحقائق عند ذلك يكون الإنسان حابسًا لأنفاسه، يراقب الحافظ الذي يحفظه، ويراقب الله الذي يعتني به، ويتذكر أن المعوَّل عليه إنما هو سريرته، فيعتني بسريرته زيادةً على عنايته بمظهره الخارجيّ الذي يحرص دائمًا على أن يكون أنيقًا.
فإذا حضرت تلك الحقائق في قلبه بلغ حقيقة الإيمان، وإذا بلغ حقيقة الإيمان لا يُخشى عليه بعد ذلك من الانحراف الذي يمكن أن يقع فيه الغافل عن هذه المعاني.
وتذكّروا تلك اللحظة التي كان فيها الشابّ يوسف عليه الصلاة والسلام يوم أن راودته امرأة العزيز عن نفسه، وأرادته أن يقع في الفاحشة والحرام.
وينقل الإمام القرطبي رحمة الله عليه أنه قد ورد في الخبر أن امرأة العزيز عندما راودت سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام قالت له: يا يوسف، ما أحسن صورة وجهك!
فأجابها: في الرحم صوّرني ربي، فلم يُشغل بالافتخار بصورته عندما أرادت أن تنمّي فيه ذلك الافتخار، لكنه أعاد النعمة إلى مصدرها.
قالت: يا يوسف، ما أحسن شعرك!
قال: هو أول شيء يبلى مني في قبري.
قالت: يا يوسف، ما أحسن عينيك!
قال: بهما أنظر إلى ربي.
قالت: يا يوسف، ارفع بصرك فانظر في وجهي.
قال: إني أخاف العمى في آخرتي.
قالت: يا يوسف، أدنو منك وتتباعد مني؟!
قال: أريد بذلك القرب من ربي، أي: أهرب من قربك المحرّم إلى قرب الله المرجوّ المحبوب.
قالت: القيطون فرشته لك فادخل معي، فرشت لك أحسن فراش ووضعت عليه أحسن لحاف فادخل معي فيه.
قال: القيطون لا يسترني من ربي.
قالت: يا يوسف، فراش الحرير فرشته لك، قم فاقضي حاجتي.
قال: إذًا يذهب من الجنة نصيبي.
هكذا كانت المعاني الحاضرة في القلب موجِّهة لسلوك ذلك الشابّ.
ولن يستقيم سلوك شبابنا إذا بقوا غافلين عن هذه الحقائق الإيمانية، ولن يقوم الشاب بالسلوك على أحسن وجه إلا إذا استقرت حقائق الإيمان في قلبه.
ومهما تحدّثنا عن التوجيه، ومهما تحدّثنا عن محاضرات، ومهما تحدّثنا عن مسلسلات، ومهما تحدّثنا في عبارات... لابد من حقائق إيمانية تعيشها القلوب وتذوقها، ولابد من حلاوة إيمان يذوقها القلب، فبها تدمع العينان، وبها تسجد الجبهة في عتبات الله، وبها يستقيم السلوك...
ومهما تحدّثنا في الحلال والحرام، ومهما تحدّثنا وقلنا: افعل ولا تفعل... إذا لم تكن حقائق الغيب حاضرة في القلب لن يستقيم سلوكنا.
بالله عليكم، هل نُصر أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عليهم إلا بحقائق الإيمان؟
وهل كسروا دولة فارس والروم إلا بحقائق الإيمان؟
{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ} [البقرة: 249]

هل هذه هي قوانين المادة؟
لا والله.. إنها حقائق الإيمان التي إن وجدت في المجتمع غيّرته، وشغلته بالغيب، وشغلته بالحقيقة التي سترها الإنسان بمألوفه ومعتاده.
{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} ما أكثر سَتره لأفعال الله تبارك وتعالى، ولعبوديته لله تبارك وتعالى بالـ: "أنا"!
عودةً إلى حقائق الإيمان، لاسيما وأننا نتهيأ لموسم الخيرات في شهر رمضان المبارك، ونتهيأ لموسم القيام والصيام وغضّ الصر وحفظ الفرج واللسان، ونتهيأ لموسم التوبة، ونتهيأ لشهر القرآن، ولا نريده شهر تلاوة فقط، إنما نريده الشهر الذي نتخلق فيه بالقرآن، ونعيش فيه معاني القرآن، ونكون فيه في أحوال القرآن...
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
أعلى الصفحة