الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
وما كان الله ليضيع إيمانكم
خطبة الجمعة للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في الجامع الأموي الكبير بحلب
18/6/2010
 
مشاهدة /video/
ملف نصي   استماع ² عرض تقديمي
مهما كثرت الأشياء وتطوّرت الوسائل المادّية التي تُيسِّر للإنسان طرق معاشه يبقى الإنسان بحاجة إلى المعاني أكثر من حاجته إلى الأشياء، لأن إنسانية الإنسان لا تظهر بالوسائل المادية، إنما تظهر من خلال تَزَوُّدِه بالمعاني الروحانية.
ومن هنا تحدَّث أهلُ الفكر والمعرفة عن أسبقية عالم الأفكار والأنوار لعالم الأشياء والوسائل.
وهذه الأمة المحمدية، أمة الإسلام، ما ميّزها الله سبحانه وتعالى بكثرة الأشياء المادية، لكنه سبحانه أثنى عليها بتميُّزها في المعاني الروحانية.
وحينما ندرك هذا ندرك أن رجوعنا إلى هويتنا الإسلامية لا يكون بالاستزادة من الوسائل والأسباب فقط، ولا بالسعي شرقًا وغربًا من أجل التكاثر في أسباب المادة... إنما يكون من خلال استزادةٍ نَعِيَها جميعًا من المعاني التي أكرمنا ربّنا سبحانه وتعالى بها من خلال وحيه وهديه، ومن خلال توجيه إمامنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومَن تأمّل في توجيه ربّنا فإنه يرى أنه سبحانه وتعالى أمر أهل الإيمان أن يكونوا دائمًا وأبدًا ممن يسعى إلى تجديد إيمانه، وإلا فما معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ} [النساء: 136]؟

وما قرأنا في القرآن: "يا أيها الذين أسلَموا أسلِموا"، لكنه سبحانه قال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ"، فأمرنا في الإيمان بالتجديد، وبالسعي إلى المزيد، ووَعَدَ مع ذلك مَن جدَّد إيمانه وارتقى في روحانيته بالإعانة والتأييد.
إنه سبحانه وتعالى أمر أهل الإيمان بالمزيد من الإيمان، ووعدهم إلى جانب ذلك بالإعانة والتأييد.
وهاتان قضيتان علينا أن نَعِيَهما ونحن في أمسّ الحاجة إليهما في زمنٍ أصبحنا فيه كالقصعة التي تتداعى الأمم عليها، ويهددنا الشرق والغرب، فلقد أصبحنا في أمس الحاجة إلى رجوعنا إلى هويتنا التي تميزنا.
ولئن كنتُ أشرت في الأسبوع الماضي إلى ضرورة الاستزادة من أحوال الإيمان حتى تظهر هويتنا، فإنني في هذه الأُويقات أحبّ أن أتحدث عن الجانب الثاني الذي هو جانب إعانة الله تبارك وتعالى وتأييده لأهل الإيمان إن هم حرصوا على الإيمان واستزادوا منه.
ألم تقرؤوا قوله تعالى: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة: 257]؟

وماذا يحتاج الإنسان إلى إعانةٍ وتأييدٍ أكثر من سماعه لهذا النص من الله؟
وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى يتولى شؤونهم ويتكفل بهم.
وبعد هذا فإنه سبحانه وتعالى بيّن لهذه الأمة أنها كلما استزادت من الإيمان فإن هذا يبقى مدَّخَرًا عند الله تبارك وتعالى، ولا يضيعه لها أبدًا:
كرّروا على قلوبكم قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]

فلو قال لك قائل وأنت تثق به: "لا أضيع لك معروفًا" فإنك ستكون في حالٍ معنوية تُغبط عليها، فكيف والقائل هو الله ربّ العالمين الذي بيده النواصي، والذي له مقاليد السموات والأرض، وهو الذي يقول لنا: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}؟
فكل لحظة تكون ظرفًا للاستزادة من الإيمان لن تضيع عند الله:
* وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ
لأنه سبحانه وتعالى يؤيّدكم بمعيّة تأييد خاصة، واقرؤوا قوله تعالى:
{إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128]
والتقوى مظهر من مظاهر الإيمان.
فلماذا تكفّ لسانك عما يسخط الله؟ ولماذا تحفظ لسانك من الغيبة؟ ولماذا تحفظ بصرك من الوقوع في المحرم؟ ولماذا لا تمتد يدك إلى المال الحرام؟ ولماذا لا تخطو رجلاك إلا إلى حيث يرضى الله...؟ إلا بسبب الإيمان.
ولهذا قال سبحانه: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}.
وستظهر المعوّقات، وسيظهر المثبّطون، وسيظهر الصارفون لك الذين يحاولون جذبك عن الصراط المستقيم، ويطالبك سبحانه وتعالى بالثبات والصبر، ويقول لك: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

فكانت لك الإعانة في المبتدى والمنتهى:
فقد أعانك حينما سلكت طريق التقوى، وأعانك حينما وقعت بين المرهّبات والمرغّبات.
{وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا} [النساء: 27]

فيأتي خُلُقُ الصبر الذي به تثبت، فيكون سبحانه وتعالى معك مؤيِّدًا.
* وبعد هذا فإن إعانة الله تبارك وتعالى وتأييدَه يأتي لك من خلال التوسيع عليك وإخراجك من الضيق، واقرأ قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2-3]
فأنت مؤيَّدٌ ومُعانٌ من الله سبحانه لأنه يخرجك من ضيقك، ويرزقك بغير حساب، وهو سبحانه وتعالى يؤيدك.
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ
لأنه سبحانه وتعالى يخرجكم من الضيق، ويرزقكم عند الإيمان بغير حساب.
* وبعد هذا فإنه سبحانه وتعالى يعينكم ويؤيدكم بانشراح الصدر وبطمأنينة النفس في زمن القلق والخوف.
أما قرأتم قولَه: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]؟

وقولَه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124]؟

فأهل الإيمان يعيشون حال الطمأنينة لأنهم واثقون بربهم، وغيرُهم في الضنك والقلق والحزن...
شعار أهل الإيمان: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]

وغيرهم في الضنك: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}.
ورحم الله من قال: "نحن في لذّة لو عرفها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف".
إذًا: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ في تثبيتكم.
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ في إعانتكم.
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ في توسيع أرزاقكم.
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ في إخراجكم من المآزق.
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ عندما يجعلكم أهل السكينة والطمأنينة.
* وكذلك عندما يحييكم حياة طيبة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 7]
فحياة المؤمن طيبة بالإعانة والتأييد، فماذا تريد فوق هذا في الدنيا؟
وعندما ينتهي أجلك لا تكون ممن تغرق روحه في جسده فتنتزعها الملائكة انتزاعًا، إنما تكون ممن تنشط روحه إلى لقاء ربها بسرّ الإيمان.
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ
حينما يحضر رسول الملِك لقبض أرواحكم، ولتنتقلوا من دار العناء إلى دار السعادة.
أما قرأتم قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النازعات: 1-2]؟

فمن أي الفريقين تريد أن تكون؟
هل تريد أن تكون ممن تغرق روحه في جسده، ممن قال الله في حقهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]؟
وحين يأتي ملك الموت فتغرق روحك في جسدك لا تريد الخروج إلى لقاء ربها؟
أم تريد أن تكون ممن يستبشر فتكون ممن ينشط للقاء ربه؟
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ حينما يجعلكم ممن ينشط للقائه.
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ حينما يحييكم عند اللقاء.
* وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ
وهو يؤمّنك عند لقائه فيقول لك: يا عبدي، أنت في أمانٍ وسلام، لن تحزن بعد هذا وتخاف، قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 44]
يؤمّنك الله.
وقال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]

* وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ
وأنتم تدخلون الجنة بغير حساب، قال تعالى:
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]

فهو أيّدك في الدنيا وأعانك بمعيّة التأييد فصبرت، وبعد ذلك أدخلك الجنة بغير حساب.
* وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ
وأنت ترث الأرض التي هي الجنة، قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74].

إنه عنوان عريض علينا أن نذكّر قلوبنا به وهو: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}،
من أجل أن نكون ممن يسعى في الإيمان إلى المزيد، وهو واثقٌ بأنه من الله تبارك وتعالى في الإعانة والتأييد.
هذه ذكرى في ساعة الجمعة المباركة..
وما أحوجنا إلى نقلة إيمانية!
وما أحوجنا في زمنِ تكالُبِ المادة إلى الإيمان!
وما أحوجنا في زمن الشتات والضياع إلى الإيمان!
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
أعلى الصفحة