الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
المقتصدون صمام أمام ونموذج إيمان
خطبة الجمعة للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في الجامع الأموي الكبير بحلب
2/4/2010
 
ملف نصي   استماع ² عرض تقديمي
نِعَمُ الله تبارك وتعالى علينا كثيرة، وهو سبحانه الذي نبّهنا إلى كثرة النعم علينا حين قال:
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]
فلا نتحرّك حركةً ولا نسكن سكونًا إلا ونجد نعمة الله علينا تغمرنا بفضله تبارك وتعالى وإحسانه.
لكن الذي يميّز المؤمنين عن غيرهم هو أنهم مع اعترافهم للمُنعم سبحانه بالفضل فإنهم يستشعرون المسؤولية على النعمة، ويعلمون أن الله تبارك وتعالى قد استخلفهم وائتمنهم على هذه النِّعَم.
فالمال الذي هو نعمة من الله تبارك وتعالى على الإنسان قد جعل الله سبحانه هذا الإنسان مستخلفًا فيه ومؤتمنًا عليه، وكذلك الطعام الذي يتناوله، واللباس الذي يلبسه، وهكذا...
وبهذين الأمرين يتميز أهل الإيمان عن غيرهم:
- بالاعتراف للمنعم بالفضل.
- واستشعار المسؤولية عن النعمة.
ولن أتحدث عن الأمر الأول، لأننا نضيّع كثيرًا في زماننا هذا من مسؤولياتنا عن النعم.
ولكن حينما يتجاوز الإنسان الأمر الثاني ويغفُل عن المسؤولية التي سيسأله الله سبحانه وتعالى فيها عن النعمة يتحول إلى ما يسمى في الوصف القرآنيّ بالبطر، والبطرُ سببُ هلاك، قال تعالى:
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58]
فبيّن لنا سبحانه أن هذا البطر كان سببًا للهلاك.
ولا ينبغي أن نقرأ هذا النصّ القرآنيّ على أنه مجرد عقوبة من الله تبارك وتعالى أنـزلها بأهل البطر، لكنْ يمكن لنا أيضًا أن نقرأها في الميزان السببَ، لأننا حينما نفرّط في نعم الله تبارك وتعالى ونغفل عن مسؤولياتنا عنها فإنها سوف تكون في موازين القوانين السببية سببَ نفادٍ وذهاب للنعمة.
ألم يَرد في الحديث أن الله سبحانه وتعالى سوف يسأل الإنسان عن عمره، وعن ماله، وعن شبابه...؟
ألم يقل ربنا سبحانه: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24]؟

كل هذا ينقل المسلم في منظور الإيمان إلى حالةٍ يشعُر فيها أنه مطالب باستشعار المسؤولية وهو يتعامل مع هذه النعمة.
وأنقل إليكم حديثًا عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول فيه كما يخرج أحمد في مسنده والطبراني: (مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ)
أي ما افتقر من اقتصد، أي من وظف النعمة لما خُلقت من أجله.
وفي حديث آخر أخرجه البزّار بيّن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الذي يقتصد يكون اقتصادُه هذا سبب غنى، وذلك بقوله: (من اقتصد أغناه الله، ومن بذّر أفقره الله).

وهكذا ينبهنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المسؤولية عن نعم الله سبحانه وتعالى حينما يضعها سبحانه في أيدينا.
ونقرأ في كتاب الله تبارك وتعالى: {إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27].
وبعد هذا نتساءل: هل واقعنا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيه استشعار للمسؤولية عن نِعم الله تبارك وتعالى التي تحيط بنا من كل مكان؟
هل نحن في تعاملنا مع طعامنا الذي نتناوله نتعامل مع هذه النعمة ونحن نشعر بقيمتها ومسؤوليتنا عنها؟
وقد أخبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم وأحمد وغيرهما: (إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا وَلا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ).

هكذا نبّه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيمة لقمة، وهو بهذا ينبهنا إلى لقمة صغيرة، لكن المؤمن يكون حاضرًا معها.
إنها لقمة، لكنّ أحد علماء الاقتصاد قال:
ماذا لو أن أمة المليار ونصف قد سقطت من كل واحد منهم لقمة؟
ستسقط عندها مليار ونصف لقمة، وهذه كم تطعم من الجياع، وكم تسكّن من جوع الجائعين؟!
هكذا تتحول القيمة الصغيرة إلى قيمة كبيرة، وهكذا يعيش المؤمن وهو ينظر إلى نعم الله تبارك وتعالى حالة المسؤولية.
وكان سعد رضي الله تعالى عنه يتوضأ، ورأى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه يسرف في استعمال الماء، فقال صلى الله عليه وسلم له مخاطبًا: مَا هَذَا السَّرَفُ؟
فقال: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ أي: إنني أتقرب إلى الله تبارك وتعالى بهذا الوضوء فكيف يكون الإسراف في هذا الوضوء؟ قال: (نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ)
أي: ولو كنت واقفًا تتوضأ من نهر، فإذا زاد في وضوئه عن ثلاث فإنه يكون مسيئًا وظالمًا.
هكذا وباختصار يضخم الحديث النبويّ الحَدَث الصغير من أجل أن ينبهنا إلى استشعار المسؤولية عن نعم الله تبارك وتعالى.
وإنني أتساءل: هل تحضر هذه القيمة في حياتنا - نحن المسلمين والمؤمنين - أم أننا حينما نتحدث عن التقرب إلى الله تبارك وتعالى نكتفي بالحديث عن الصلاة والقيام؟
هل يتحدث واحد منّا أنه يتقرب إلى الله تبارك وتعالى حينما يميط الأذى عن لقمة؟
هل يشعر الواحد منا أنه حينما يوفر الكهرباء التي تُنفَق فيها الأموال الطائلة أنه بهذا يتقرب إلى الله؟
هل يستشعر الواحد منّا أنه حينما يوفر المياه يتقرب إلى الله؟
هل أصبحت هذه القيم غائبة عنّا ونحن الأمة التي تعتزّ بأن دينها لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وتحدث فيها؟
نحن الأمة التي تفخر بأن قرآنها تحدث في كل شيء، وأن محمدها تحدث في كل شيء...
نحن الأمة التي إذا تحرّكنا خطوة فإننا نشعر أننا نسير إما إلى الجنة أو إلى النار، فكل خطوة يخطوها الإنسان، وكل حركة تتحركها يده، إما أن تكون مقرّبة إياه إلى الجنة أو إلى النار، فإما أن يكون متقربًا إلى الله سبحانه وتعالى برضوانه أو أن يكون مبغضًا له بسخطه...
وهكذا نجد على صعيد معاملاتنا الاجتماعية أننا نغفل عن هذه القيم، وكم نهدر من موائدنا، وكم نحوّل إلى سلّة المهملات من الطعام الذي يمكن أن يأخذه الفقراء، وكم نتباهى حينما يُكثر الواحد منّا من استهلاك الكهرباء، وكم يتباهى ويفتخر حينما يكون متميزًا على غيره بفاتورة المياه...؟
ما هكذا أهل الإيمان، وما هكذا أهل التواضع، وما هكذا أهل العبودية لله، وما هكذا أهل الاستشعار للمسؤولية..
لا... ففي الحديث عن هذه الصغائر والجزئيات حينما ننسى أنها قربات نتقرب بها إلى الله فإننا نكون غافلين عن فهمِ إسلامنا العظيم.
ونجتمع في الصلوات، ونجتمع على تلاوة كتاب الله، ونتقرب إلى الله بصيام النفل... لكننا نجهل هذه القيم التي استعبدنا الله سبحانه وتعالى فيها، فهو تبارك وتعالى تعبّدنا وأراد أن نتقرب إليه من خلالها.
فالمجتمع الحاضرُ مع المسؤولية مجتمعٌ منظّم، ومجتمع يمكن أن يوفر للأجيال القادمة بيئة آمنة...
والمجتمع المسرف المبذّر مجتمع لا يعي مسؤوليته، ولا يقرأ مستقبله، ولا يكون نموذج إيمان حاضر مطبّقٍ لكتاب الله وهدي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فعلينا أن نُحضر هذه القيم كلها في حياتنا، وأن ننبّه عليها أطفالنا...
وأتحدى أن يترفّع مؤمن متواضع عن إماطة الأذى عن لقمة، بل أتحدى إلا أن يكون متكبرًا.
لقد بدأت عادات الغرب تأكل حياتنا، ونسمع أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يأمرنا بهذا الأمر الذي فيه حياتنا ونهضتنا وأماننا، لكننا نسمع أن الذي يفعل هذا في الغرب يُنظر إليه باحترام، وننسى قِيَمَنا، وننسى أن توجيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يفوق كل توجيه.
إذًا: علينا أن نعي هذه القيم، وأن التبذير يُسخط المولى، وأن الإسراف يكرهه الله تبارك وتعالى، وأن سبيل المؤمن وهو في نعم الله التي أنعم بها عليه إنما هي الاقتصاد..
ومفهوم الاقتصاد في الشريعة الإسلامية هو أن يضع النعمة فيما خُلقت من أجله، فإذا وضع النعمة فيما خلقت من أجله فهو المقتصِد الذي يغنيه الله سبحانه، والذي تقرّ به عين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
البِرّ لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تَدين تُدان.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
أعلى الصفحة