الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
فضل سيدنا علي رضي الله عنه الجزء الثالث
شرح جوهرة التوحيد
درس الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في جامع أبي حنيفة بحلب
19/2/2010
 
مشاهدة /video/
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ² عرض تقديمي
فضل سيدنا علي الجزء الثالث
درس الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في جامع أبي حنيفة النعمان بتاريخ 19/2/2010
ما نزال في رحاب الأقمار الأربعة المحيطة بالشمس المحمدية صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا, وقلنا إن الحديث عن النماذج التي تخـرّجت في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حُجّة علينا وأُسوة لنا, لأننا حينما نتحدث عن الرُسل وعن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, فإننا نتحدّث عن نموذج عصمه الله سبحانه وتعالى, فلا يمكن أن يظهر عنه إلا ما كان حقًا, لكننا عندما نتحدّث عن غير الرُسل عليهم الصلاة والسلام من النماذج الإنسانية, نتحدّث عمن امتلك طريق الحق بإرادته وباختياره, ومع كونه ليس معصومًا, ثبت على الحق أمام المُرغِّبات والمُرهِّبات.
ومما ميّز أهل السنة والجماعة أنهم يعتقدون فضل الأربعة الأقمار, خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم, أعني سيدنا أبا بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا عليًّا.
وآخر ما تحدّثنا كان في قمرهم الرابع سيدنا عليّ رضي الله عنه, وتحدّثنا عن الجانب الديني الأول في حياته, وهو الجانب الإسلامي الاتباعي السلوكي, وكان لنا اقتباسات من هذا الجانب, وانتقلنا إلى الجانب الثاني الإيماني في حياة سيدنا عليّ رضي الله عنه, وكيف كان يترفّع بحاله الإيماني فوق الدنيا, وكيف كان ينظر إليها بازدراء, يزهد فيها زهدًا باطنًا مع أنها في يده.
واليوم نتحدّث عن الجانب الديني الثالث في حياته رضي الله عنه, ولا تكفي دروس قليلة أو قصيرة للحديث في هذه الجوانب, لكنها أمثلة واقتباسات قصيرة, من باب إيراد النموذج لا من باب الحصر, لعلكم تتطلعون وتقرؤون وتتابعون..
الله سبحانه وتعالى عندما تحدّث عن الجانب الإحساني في حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم, قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} فإذا كان الله سبحانه وتعالى يَصِف المُتّبِع بالإحسان, فكيف لا يكون المُتّبَع محسنًا, إذا كان الذي يتّبعهم يصل إلى درجة الإحسان, التي هي الجانب الديني الثالث, والدين كما نعلم: إسلام وإيمان وإحسان, فإذا كان القرآن الكريم يَصِف مُتّبِعهم بأنه حائز على مقام الإحسان, فكيف لا يكون المُتّبَع من سادات المقام الإحساني {وَالسَّابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ..} الآية [التوبة: 100]
سيدنا عليّ رضي الله عنه لو لم يكن للتعبير عن مقامه الإحساني إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له: (أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ) لكان كافيًا.. وهذا حديث أخرجه البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب, ولو أن بعض الناس أراد أن يميل في تفسير هذا الحديث إلى أنه صلى الله عليه وسلم أراد القرابة النسبية, فنقول له: هذا مُمتنِع في تفسير هذا الحديث, لأن القرابة النسبية لا تكفيه, إذ القرآن الكريم ذمّ عمّ النبي صلى الله عليه وسلم, وعمّ النبي صلى الله عليه وسلم في القرابة النسبية أقرب من ابن عمّ النبي عليه الصلاة والسلام, العمّ يوازي الأب تمامًا, والعرب تقول للعمّ: يا أبتي.
ولذلك لمّا قرأنا في القرآن ذمًّا صريحًا {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] فهو أقرب في القرابة النسبية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من سيدنا عليّ, لأن سيدنا عليًّا هو ابن عمّ النبي صلى الله عليه وسلم, فهو أبعد في القرابة النسبية من عمّه.
إذًا لا يكفي في تفسير هذا الحديث أن يُفسّر بالقرابة النسبية, إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبيّن لنا أن سيدنا عليًّا رضي الله عنه قد حصلت مجانسة في الوصف والحال بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد اقتبس سيدنا عليّ من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمد منه, وعندما يسأل الإنسان: إذا فهمنا (أَنْتَ مِنِّي), فكيف نفهم (وَأَنَا مِنْكَ)؟
نقول: هذا يُفهم عندما نعلم أن المؤمن مرآة أخيه, فكان صلى الله عليه وسلم ينظر في المرآة فيرى نفسه, وهذا ثابت, إذ النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح آخا سيدنا عليًّا, فأخوّة سيدنا عليّ للنبي عليه الصلاة والسلام ثابتة في الأحاديث الصحيحة, والمؤمن إذا نظر إلى أخيه فإنه يرى المرآة, ومن نظر إلى المرآة يرى نفسه.
فلما كانت المجانسة في الأحوال عظيمة, يستمد سيدنا عليّ رضي الله عنه من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصافه, ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرآة سيدنا عليّ أوصافه وأخلاقه, صحّ بهذا المعنى أن يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ).
وعندما نتحدّث عن مجانسة, لا يمكن لنا إلا أن نتحدّث عن مجانسة في الإسلام والإيمان والإحسان, , من حيث الشبه الجسدي سيدنا جعفر كان أشبه من سيدنا عليّ بالنبي صلى الله عليه وسلم, لكنه صلى الله عليه وسلم صَرّح وقال له: (أشبهت خَلْقي وخُلُقي), وقال للحسين: (حسين منّي وأنا منه) وقال لسيدنا عليّ: (أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ) فدلّ على أنه رضي الله عنه قد وصل إلى رتبة في الخصوصية جعلته مُستحِقًا لهذه العبارة من سيّد الكائنات عليه الصلاة والسلام.
مما يدّل على هذه المجانسة ما جاء في الصحيح, في صحيح مسلم, عن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه, قال: (نَحَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاث وستين بيده..) عندما أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُهدي الكعبة في الحجّ الذي حجّه صلى الله عليه وسلم, أرسل سيّدنا عليًّا رضي الله عنه إلى اليمن حتى يُحضر له أفضل الجمال في الجزيرة العربية, حيث كان هناك سُلالات نقيّة عظيمة الأوصاف, فأرسل صفيّه ليصطفي أحسن الجمال, فاجتمع الجَمال مع الجِمال, جاء سيدنا عليّ بمائة جمل, ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثًا وستين جمل, وما بقي من الجِمال دعا سيدنا عليًّا, فأكمل سيّدنا عليّ, فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر المائة, لأنه قد وكّل بالنحر من قال له: (أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ) وهذه خصوصية عظيمة كانت لسيدنا عليّ رضي الله عنه, ومعجزة من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام, حيث نحر ثلاثًا وستين ناقة بعدد السنوات التي عاشها صلى الله عليه وسلم.
ثم لو لم يكن من خصائص سيدنا عليّ رضي الله عنه إلا ما ثبت في الحديث المتفق عليه يوم خيبر لكفاه, لأنه صلى الله عليه وسلم أرسل رجالاً لفتح خيبر أول يوم وثاني ويوم وثالث يوم, وكانت خيبر لا تُفتح, فقال صلى الله عليه وسلم: (لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) فأثبت له وصف المحبة, وهو أعلى أوصاف الإحسان, إذ مقام الإحسان فيه مراقبة وفيه مشاهدة وفيه محبة, فأعلى رُتبة في مقام الإحسان رتبة المحبة, التي أشار إليها القرآن الكريم عندما قال سبحانه وتعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وأعلى الرُسل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الذي نال وصف المحبة, إذ سيدنا إبراهيم الخليل, سيدنا موسى الكليم, أما سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فإنه حبيب الله.
كل الأصحاب تشوّفوا.. كل واحد كان يتمنى أن يُعطى هذه الراية, لا لحب الرياسة, لكن من أجل أن ينال هذه الحُظوة والشهادة, لأن الذي سوف يتسلّم الراية, قد شهد رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه يحبّ اللهَ ورسولَه, ويحبّه اللهُ ورسولُه.
وفي الصباح أصبح الناس كلهم ينتظرون.. ينظرون إلى الراية.. لمن سيُعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وغدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعطاها.. الكل يمد رأسه ويُري النبي عليه الصلاة والسلام أنه موجود لعله يكون صاحب الراية, كلهم يرجو أن يُعطاها, لكن الراية كانت من نصيب رجل لم يكن بينهم, قال صلى الله عليه وسلم: (أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) قالوا: يا رسول الله, عليّ مريض, يوجد مرض في عينيه. وهو في فراشه, قال: (أَرْسَلُوا إِلَيْهِ) فجاء عليّ وعيناه في حالة من المرض, لا يرى بهما, فتفل صلى الله عليه وسلم ومسح على عينيه, فبرئ, وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم التي يعجز أطباء العيون عن فعلها؟ ومثل هذا عندما أعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة عين قتادة, بعد أن قُلعت فكيف وصلت الأعصاب, ووصلت العروق.. والأوعية الدموية عملت, حتى صارت العين الثانية تمرض والعين التي وضعها رسول الله لا تمرض, فكان يشتكي من العين الأخرى, لماذا؟ لأن سيدنا قتادة قد فدى عين رسول الله بعينه, وقف ووضع رأسه أمام وجه النبي عليه الصلاة والسلام, حتى يحمي وجه رسول الله بوجهه إذا جاء السهم, فجاء السهم ففقأ عينه, فجاء وعينه على يده, فأمسكها رسول الله وردّها.. وهكذا جاء سيدنا علي وعيناه فيهما مرض, فتفل عليه الصلاة والسلام في عينيه, فكان ريقه صلى الله عليه وسلم أفضل من أي طب.
فهذه حظوة عظيمة, حيث شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم..
ولنلاحظ أن الصحابة جاؤوا بصفة المريد, لكن سيدنا عليّ كان في وصف المُراد, جاؤوا يريدون الراية, وغاب سيدنا عليّ, فكان في وصف المُراد, هم أرادوا لكن سيدنا عليّ كان مُرادًا.
(لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)
كان الشيخ عيسى البيانوني عاشقًا للنبي عليه الصلاة والسلام, وكان يُقسم في شِعره رحمه الله ويقول:
جسد تمكّن حبّ أحمد فيه تالله إن الأرض لا تبليه

هذا قَسَم, والشيخ عالِم فقيه, وكان حفيده في قلبه شيء من قَسَم الشيخ, فكيف يقسم في شِعره على شيء ليس فيه دليل في النصوص؟ هذا معناه أن الأرض لا تُبلي جسدًا تمكّن حبّ النبي صلى الله عليه وسلم فيه, فكيف يقسم الشيخ بهذا القسم؟ وبعد وفاة الشيخ بأربع سنين, عامل المقبرة في المدينة المنورة أراد أن يكشف القبر, عادة كل أربع سنين تفنى وتبلى الأجساد التي في القبور, فكانوا يكشفون القبور التي صار لها أربع سنين, ومن جملتها كُشف قبر الشيخ عيسى البيانوني رحمه الله, وإذا به كأنه دُفن الساعة, كأنه دُفن الآن, وبعد أربع سنين عاد عامل المقبرة مرة أخرى أي بعد وفاة الشيخ بثمانية سنين, وكشف قبر الشيخ عيسى البيانوني رحمه الله فرآه كأنه دُفن الآن, عند ذلك علِم عمّال المقبرة أن هذا القبر له خصوصية, وعند ذلك صدر أمر بمنع فتح هذا القبر, وسمع حفيد الشيخ بالقصة, فأدرك أن جده كان صادقًا في قسمه الذي أقسمه:
جسد تمكّن حبّ أحمد فيه تالله إن الأرض لا تبليه

إذًا هذا الذي تمكّن حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلبه..
ومن الأحاديث الصحيحة التي لا شكّ في صحتها أبدًا في مزايا سيدنا عليّ رضي الله عنه ومقامه الإحساني, ما جاء في الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه, عندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة العُسرة -يعني في غزوة تبوك- وأراد أن يستخلف على المدينة رجلاً, سيدنا عليّ رضي الله عنه لم يتخلّف عن غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم, وهذه غزوة طويلة ويريد سيدنا عليّ أن يكون إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم فيها, لكن النبي صلى الله عليه وسلم يُوحى إليه أن أبقي عليًّا على المدينة, حتى يكون واليًا على المدينة في سفر النبي صلى الله عليه وسلم, ويستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سيدنا عليًّا, فيحزن سيدنا عليّ, يضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أميرًا على المدينة, فيحزن لماذا؟ لأنه لا يريد أن يكون أميرًا على المدينة, هو يريد أن يكون مجاهدًا مع رسول الله, فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يرضيه, فقال له عليه الصلاة والسلام: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) لما ذهب سيدنا موسى إلى المناجاة, استخلف سيدنا هارون, تركه خليفة على قومه.
وكأنه عليه الصلاة والسلام يُذكّره بقوله تعالى الذي أشار إلى منزلة هارون في نص القرآن, عندما قال سيدنا موسى {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي, هَارُونَ أَخِي, اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 29-31]
لكن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم أنه سيأتي من يُغالي في سيدنا عليّ رضي الله عنه, ربما يأتي من يستشهد بهذا الحديث ويقول: النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) ونحن نقرأ في القرآن {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي, هَارُونَ أَخِي, اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} وجاء بعدها {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 32] فيدعي بناءً على هذا نبوة سيدنا علي رضي الله عنه, ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أغلق الطريق على الغلو, فقال: (إلا أنه لا نبي بعدي) لأن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام هو خاتم النبيين, فلا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن سيدنا علي رضي الله عنه في مقامه الإحساني مُستغرِقًا في محبة الله فقط, إنما كان مُستغرِقًا في محبة الله و مُستغرِقًا في رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان مستغرِقًا في سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا عندما يقرأ الإنسان اللغة الإحسانية ويتخصص في اللغة الإحسانية يُدرك أن الذي يستغرق في رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استغراقه في الله, يكون في أعلى مقامات أهل المعرفة, لأنه ينظر إلى سبب كل خير وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ومما يشهد لهذا المقام الاستغراقي في رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن سيدنا البراء بن عازب في قصة كتاب الحديبية, لما عقد النبي عليه الصلاة والسلام صُلحًا وكتب كتابًا, فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. قالوا: لا نُقرّ بها, أي: لو كنا آمنا أنك رسول الله ما كنا قاتلناك, ولا كنا كتبنا كتاب صلح بيننا وبينك, لا نقبل أن يُكتب في كتاب الصلح رسول الله, فمعنى ذلك أننا أقررنا أنك رسول الله.. قالوا: لا نُقرّ بها, فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك, لكن أنت محمد بن عبدالله, نحن نكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. نكتب اسمك, لا نكتب الوصف الذي لا نتفق عليه.
قال: (أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله) أي: أنا رسول الله وسأبقى رسول الله ولو لم تؤمنوا, وإذا كان الطريق لإنفاذ هذا الصلح أن أكتب محمد بن عبد الله, فلا مانع عندي.
النبي عليه الصلاة والسلام قال لسيدنا علي: (اُمحُ رسولُ الله) يعني ما كُتب في كتاب الصلح, كُتب محمد رسولُ الله, امحوا من هذا الكتاب عبارة "رسولُ الله" فماذا قال سيدنا علي؟ قال: لا..والله لا أمحوك أبدًا. سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام ما قال له: امحوا رسولَ الله. قال: (اُمحُ رسولُ الله) لكن حتى اسم النبي ووصف النبي صلى الله عليه وسلم, ما كان سيدنا علي قادرًا على محوه, كيف يمكن لي أن أمحوَ ما يدل على وصفك العظيم يا رسول الله.. أنا لا أستطيع.. لا أستطيع..
وقد ذكرت فيما مضى كيف قال الشافعي رحمه الله: نتف الإبط سنّة, ولا أقوى عليه, أي: أنا أضعف من أن أتحمله..وكان يحلق ولا ينتف.
إذًا هكذا سيدنا عليّ كان في حالة الاستغراق والتعظيم لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا عليًّا إلى اليمن قاضيًا.
سيدنا عليّ كما يروي الإمام أحمد في مسنده, يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأنا حديث السن, فقلت: تبعثني إلى قوم يكون بينهم أحداث ولا عِلم لي بالقضاء, كيف ترسلني يا رسول الله إلى اليمن لأكون قاضي اليمن, ولا عِلم لي بالقضاء؟
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله سيهدي لسانك, ويُثبّت قلبك) وهذا دلّ على أن الإلهام الذي أكرم الله به سيدنا عليًّا رضي الله عنه كان بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم, يقول سيدنا عليّ: فما شَكَكْتُ في قضاء بين اثنين بعد.
كانت أغرب المسائل تأتي إلى سيدنا عليّ, فيحسم الأمر دون أي تردد, كان يقضي بين الناس دون أن يتردد في قضاءه, وهذا ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له, وبسِرّ الإلهام الذي أُيِّد به بسِر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان من عِلمه بالله ومعرفته به يكتفي بعِلم الله, وهذا الاكتفاء بعِلم الله هو من أعلى مقامات العارفين, إذا نظرت إلى أن عِلم الله الأزلي لا يتغيّر, ورضيت بعِلم الله الأزلي,تكون في هذا المقام.
ابن عطاء الله السكندري في الحِكم يقول: ما أدرك من الجهل شيئًا من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الحق فيه. أي: الذي ظهر هو ما علمه الله في الأزل, أنت عليك أن تأخذ بالأسباب, لكن لن يظهر إلا ما علمه الله في الأزل.
قيل له: ألا نحرسك؟ قالوا لسيدنا علي.. يعني أنت خليفة المسلمين.. ألا تريد أن يكون لك حرّاس يحرسونك, فقال: حرس امرًا أجلُه. أي: أجلي يحميني.. لن أموت إلا في الوقت الذي علم الله فيه أنني أموت. فلا أريد حراس لأن أجلي يحرسني.
وأشار رضي الله عنه بيده مرة إلى صدره وقال: إن هاهنا عِلمًا لو أصبت له حَمَلة. يعني ليتني أرى من هو مستعد لحمل هذا العِلم حتى أضع في قلبه هذا العِلم.
وهذا كله من باب إيراد النماذج والأمثلة على المقام العظيم الذي كان فيه سيدنا عليّ رضي الله عنه, وهو من ثمرات حضرة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
إذا كنا نتحدّث عن سيدنا أبو بكر, ونتحدّث عن سيدنا عمر, ونتحدّث عن سيدنا عثمان, ونتحدّث عن سيدنا عليّ رضي الله عنهم, فما هؤلاء كلهم إلا ثمرات من حضرة نور رسول الله صلى الله عليه وسلم, فالعاقل هو الذي يستغرق في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, هو الذي يجعل عمره اتباعًا لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم, هو الذي يجعل كل أمره خدمة لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم, هو الذي يستغرق قلبه في محبة النبي صلى الله عليه وسلم, يستهلك قلبه في محبة النبي صلى الله عليه وسلم.

أعلى الصفحة