الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
فضل سيدنا علي الجزء الأول
شرح جوهرة التوحيد
درس الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في جامع أبي حنيفة بحلب
29/1/2010
 
مشاهدة /video/
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ² عرض تقديمي
فضل سيدنا علي الجزء الأول
درس جامع ابي حنيفة تاريخ 29/1/2010
كنا في حضرة الخليفة الأول سيدنا أبي بكر صاحب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم, ثم انتقلنا بعد ذلك إلى حضرة أمير المؤمنين سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه, وكنا في مجلس الإيمان الثالث في حضرة صاحب الحياء والكرم أمير المؤمنين سيدنا عثمان رضي الله تعالى عنه, واليوم تعالوا بنا نمضي هذا المجلس المبارك في حضرة سيدنا ومولانا الإمام علي رضي الله تعالى عنه وكرّم الله وجهه, أحد الأربعة الذين أجلسهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عباءته الشريفة, أهل العبا, وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي) وقرأ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]
إمام أهل الانجذاب في حضرة الله, الذي ينتسب إليه كل من تكلّم في المعرفة, ويتصل السند إليه عند كل من ذاق من أذواق المحبة وركن الإحسان.
وقد كنا ونحن نتحدث عن الثلاثة رضي الله تعالى عنهم جميعًا, نتناول الجوانب الثلاثة في حياتهم رضي الله تعالى عنهم, الجانب العملي الاتباعي السلوكي, والجانب الخُلقي, والجانب المعرفي, وكنا نأخذ اختصارات, لأن الحديث عن أيً من هؤلاء الذين هم كواكب أهل الأرض, ومصادر الأنوار بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا يمكن أن يكون إحصاءًا وحصرًا, إنما نأتي بأمثلة ليس إلا.
وفي حضرة سيدنا علي رضي الله تعالى عنه نبدأ بالجانب الأول, الذي هو جانب الاتباع السلوكي.
سيدنا علي رضي الله تعالى عنه كان نموذج الاتباع, بل إنه رضي الله تعالى عنه كان المثال في حال حضوره وغيابه في الاتباع, أي حينما كان في شبحه الجسماني مع حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مُتبِعًا, وحين كان بدنه بعيدًا عن بدن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كان صاحب الاتباع.
أما في حضور سيدنا علي في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنأخذ ما رواه الإمام مسلم رحمة الله عليه في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في يوم خيبر, فأعطاه الراية, وقال له: (امشِ ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك) سيدنا علي رضي الله تعالى عنه يسمع من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قوله: (امشِ ولا تلتفت) يسير سيدنا علي رضي الله تعالى عنه شيئًا, والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمره بعدم الالتفات لكن سؤالًا يدور في خلده, يريد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهو المُرسَل من الحبيب صلى الله عليه وسلم لتنفيذ أمر, ويريد بعض الاستفسارات في هذا الأمر, لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أمره ألا يلتفت, فكيف يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه أمام أمرين اثنين, الأمر الأول الأدب المعتاد, عندما يريد الإنسان أن يسأل يلتفت إلى من سيسأله ثم يسأله, ولكنه أمام هذا الأدب المعتاد يقف فيتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلتفت) من هنا ظهرت المدرستان, مدرسة تقديم الأدب على الاتباع أو الامتثال, ومدرسة تقديم الامتثال على الأدب, حيث أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لما تخلّف عن إمامته في الصلاة يوم أن ذهب يصلح بين الأنصار حين اختلفوا, ثم رجع فشقّ الصفوف حتى وصل إلى الصف الأول, وأدرك ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, وبدؤوا يضرب كل منهم يده على اليد الأخرى, سيدنا أبو بكر انتبه إلى هذا الضجيج, وعرف أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قد وصل, فأراد أن يرجع, فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى مكانه, ليلتحق رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتديًا, لكن الصديق رضي الله عنه رجع ولم يمتثل هذا الأمر, رجع ثم تقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكمل الصلاة, وحين انتهى سيدنا أبو بكر من الصلاة قال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومثل هذا حصل عندما قام الليل الطفل الصغير ابن عباس رضي الله عنهما في حجرة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم, عند خالته ميمونة, حينما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقف بجانبه في الصلاة, ولكنه كان يرجع قليلًا فيجرّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي, فيرجع قليلًا مرة أخرى, والنبي صلى الله عليه وسلم يجرّه بيده ليقف إلى جانبه, حتى يلاحظ كل حركة من حركات رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكنه عندما يجد نفسه حذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجع, ثم يجره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرجع, في نهاية الصلاة قال له: ما لك, أجرك إلى جانبي ثم أراك تخنس. أي ترجع, فقال له ابن عباس -هذا الغلام الطفل رضي الله تعالى عنهما- قال: كيف أقف حذاءك وأنت رسول الله. لا يمكن أن يقف إلى جانبك أحد, ويقرّه رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما يفعله.
وهنا سيدنا علي رضي الله تعالى عنه يقدّم لنا مدرسة أخرى في الاتباع, عندما يأمره رسول الله صلى عليه وسلم ويقول له: (امشِ ولا تلتفت) ولكن سؤالًا في قلب سيدنا علي يجول في خاطره.. يريد أن يسأل رسول الله, فيقف ولا يلتفت, ويرفع صوته ويصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ أصبح بينه وبين الحبيب صلى الله عليه وسلم مسافة, لابد أن يرفع صوته, ولابد له أن يصرخ حتى يُسمع الحبيب صلى الله عليه وسلم, يقول وهو يصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ يقول له صلى الله عليه وسلم: (قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله).
هذا المشهد قُدِّم لنا مع تقرير النبي صلى الله عليه وسلم, لأن السنة كما هو معلوم هي أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأفعاله صلى الله عليه وآله وصحبه سلم, وتقريراته, أي عندما أقرّه الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل له: لماذا لم تلتفت إليّ وأنت تسألني؟ عَلِم النبي صلى الله عليه وسلم منه شدة التمسك في الامتثال, فهو يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم في عدم الالتفات.
إذًا هما مدرستان, وأقرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدرستين, وقد تجلى ذلك في حوادث كثيرة, منها حادثة الحديبية, ومنها حادثة بني قريظة الشهيرة, عندما قال: (لا يُصلّين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتعجّل, ولم يأمرنا بتفويت صلاة العصر, وقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نُصلّي العصر في بني قريظة فنحن نصلي العصر في بني قريظة ولو أذّن المغرب, والنبي صلى الله عليه وسلم أقرّ الفريقين ولم يعترض على أحدهما.
إذًا هاهنا يظهر الصديق رضي الله تعالى عنه إمامًا في مدرسة تقديم الأدب على الامتثال في بعض المواطن, لكن هذا لا يعني أن هذه المدرسة تخترق الواجبات وتوقع في المحظورات, إنما الأدب معناه شيء لطيف, شيء يتعلق بأخلاق النفس, يتعلق بما ينبغي أن يُظهره الإنسان من سلوك في باب الإحسان, ليس إلا, ولا يعني تجاوز الحدود, ويظهر سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في تقديم الامتثال على الأدب رضي الله تعالى عنهما.
هذا في حال حضور سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
الآن سوف نرى صورة أخرى عندما يكون سيدنا علي رضي الله عنه بعيدًا في شبحه وجسده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوافقه ويحرص على اتباعه.
وهذا تجلى عندما أهلّ في الحج بما أهل به سول الله صلى الله عليه وسلم.
عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج, كل من الأصحاب نوى نيّة, فبعض الأصحاب نوى الإفراد, و بعضهم نوى التمتع, وبعضهم نوى القِران, لكن سيدنا علي رضي الله عنه لم يُكلِّف نفسه أن يفكّر.. هل أنوي الإفراد.. أم أنوي القِران.. أم أنوي التمتع..إنما أهلّ بما أهلّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: نويت ما نواه رسول الله صلى الله عليه وسلم. أيش هي نيّة رسول الله, فنيتي موافقة لنيته.
ولذلك في الأحكام الفقهية يصح إذا كان هناك إمام للحج أن ينوي من كان في الركب أن يُعلّق نيته على نية إمام الركب, حتى لا يصبح شاذًا عن الركب..لأنهم إذا كانوا قد خرجوا في موكب عدده خمسة آلاف حاج مثلًا, وأحد هؤلاء الحجاج ليس له وصول إلى إمام الركب ولا يعرف خطة هذا الإمام, فيجوز له أن يعلّق نيته على نية الإمام.. هذا ما فعله سيدنا علي رضي الله عنه..
أين فعل ذلك؟ عندما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن.
وقد كنت في إحدى الأسفار, ورأيت المسجد الذي هو رابع مسجد في الإسلام, الذي أسسه سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في صنعاء, عندما ذهب سيدنا علي إلى صنعاء ليحضر بُدن النبي صلى الله عليه وسلم, أي الجِمال التي سينحرها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد أرسله ليشتري مائة من الإبل, حتى تكون هديًا في حج النبي صلى الله عليه وسلم, فعندما ذهب سيدنا علي رضي الله عنه أسس هذا المسجد, وهو رابع مسجد في الإسلام في صنعاء, المسجد الأول: مسجد قباء, المسجد الثاني: مسجد الجمعة, المسجد الثالث: المسجد النبوي, المسجد الرابع: المسجد الذي أسسه سيدنا علي رضي الله عنه, وهو من أكبر المساجد في العالم, مسجد كبير جدًا, وعندما جاء عهد سيدنا علي رضي الله عنه اعتنى به, وعندما جاءت العصور المتعاقبة كان الخلفاء يعتنون بهذا المسجد, وهو قائم إلى يومنا هذا, فهو رابع مسجد في الإسلام, أسس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم, رابع مسجد في الإسلام أي بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم, فنحن لا نعد المساجد التي كانت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم, إنما نتحدث عن المساجد التي بُنيت وأسست بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا يظهر في هذه الحادثة كيف يمكن للإنسان أن يستثمر حركته ليملأها بأمور كثيرة, هو أُرسل من أجل أن يشتري الجمال, لكنه لم يكن يدخر جهدًا, إنما كان يُعلّم, وكان ينشر الدعوة إلى الله, وكان فيما كان في رحلته تلك, أنه أسس مسجدًا ما يزال إلى هذا الوقت مسجدًا من أكبر مساجد المسلمين.
إذًا هذه الحادثة نقرأها في صحيح البخاري, حادثة لا نأتي بها من ضعاف ما نُقل ورُوي, إنما نرويها من صحيح البخاري عن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, يقول: قَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ وَمَعَهُ هَدْيٌ فَقَالَ أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا مشهد يُظهر الاتباع في حال الغياب, فقد رأينا صورة ومشهدًا في حال الحضور, وهذا مشهد آخر يُظهر الاتباع, ويُعلّمنا صورة من صور الاتباع..
الآن قضية الاتباع هذه قضية عظيمة, اليوم ربما يتساهل بعضنا في هذه القضية الكبيرة, ينبغي أن يكون حاضرًا في قلوبنا وعقولنا وأرواحنا أن أعظم ما هو في مجال السلوك العملي ما فعله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, هذا ينبغي أن يكون من المُسلَّمات عند الكبار والصغار, أن تُقصِّر في الاتباع هذا شأنك, لكن مع تقصيرك بالاتباع اعترف بأن السلوك الأعلى والأمثل والأفضل والأحلى والأسمى والأغلى هو سلوك سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
لذلك فإن أهل العِلم قالوا: العاصي الذي يعصي الله نوعان: أحدهما: عاصي يعصي وهو لا يحضر في قلبه أنه يعصي, أي لا يحضر في قلبه معنى المخالفة, هو يعصي وشهوته تسوقه إلى المعصية, لكنه وهو في حال معصيته يدرك أنه مُتلطّخ بالنجاسة, قال هذا عنده جزء ظاهر اسمه معصية, وعنده جزء باطن اسمه طاعة, لأنه يعتقد أن ما فعله إنما هو من النجاسات, إنما هو من القاذورات التي يتلطّخ بها أهل المخالفات, فهذا الشعور الباطن في قلبه جعله بين أمرين: طاعة باطنة ومعصية ظاهرة, قال أهل العِلم: فيأتي الاستغفار ليُغلِّب جانب الطاعة, فتغلب الطاعة المعصية.
والثاني: هو الذي يعصي الله ومعنى المخالفة حاضر في قلبه, فهذا في معصية ظاهرة وباطنة.
وهكذا عندما يشعر الإنسان في باطنه أن أكمل شيء هو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم, أكمل شيء في السلوك, أكمل شيء في الطعام, أكمل شيء في اللباس, أكمل شيء في صورة العبادة, أكمل شيء في هيئاتها.. ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا حضر هذا في قلبه, بعد ذلك إن قصّر. يستغفر الله تعالى.
الشافعي رحمه الله قال: نتف الإبط سنة, ولا أقوى عليه. فكان يحلق حلقًا, والسنة أن يقوم بالنتف, قال: هو سنة -أنا أعترف أنه سنة لكني- لا أقوى عليه.
هكذا يبقى المثال والنموذج الحاضر, أما أن يأتي من يُفرّق ويقول: إن بعض الأشياء التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم جِبلِّيّة لا يمكن لنا أن نعدها في الفضائل.. وهناك سلوك آخر هو سلوكه الذي هو في العبادة أو في أمره صلى الله عليه وسلم في العبادة... فهذا من الجهل, وهذا من البُعد, إن لم نقل من الجهل فهو من البُعد عن حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أحد أهل الله قال ولده: لا أحب الدُبّاء.. أبوه يقول له: تعال وكُل, الدباء أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال الولد: لا أحبه. فما كلّمه هذا الأب بعد ذلك, ما كلّم ولده.. قال: كيف يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا ولا تحبه, أنا أقول لك: رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذا وتقول لا أحبه.. فما كلّمه بعد ذلك حتى مات.
هكذا كانت أحوالهم, هكذا كان تعظيم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في قلوبهم, كل قول قاله فهو أعلى الأقوال, وكل فعل فعله فهو أعلى الأفعال, وكل حال كان مُحقَقًا فيه فهو أعلى الأحوال, هذا لا يعني كما قلت أننا في كل الأحوال يجب أن نكون على هذا المستوى, فقد نكون مُقصِّرين أو نكون أقل من أن نتحقق بهذا, لكن مع الاعتراف الشعوري القلبي, وقد أشرت فيما مضى إلى الصورة التي كان عليها المسجد النبوي, وهذا لا يعني إلغاء الصورة التي نحن فيها, أو أنها صورة قبيحة, وما رأى المسلمون أنه حسن فهو حسن, لكن يبقى في قلوبنا شعور أن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أكمل وهو أعظم, وقد رأيت في الدراسات الحديثة جدًا جدًا جدًا ما يتحدث عن الفوائد الصحية عندما يضع الإنسان أعضاءه على التراب, الأصل في المسجد النبوي كانوا يسجدون على الأرض, جباههم وأقدامهم وأيديهم كلها على الأرض, عندما بدأت الدراسات الحديثة تتحدث عن الحقل المغناطيسي الأرضي, وعلاقة هذا المغناطيس بالأرض, وعلاقة هذا المغناطيس بالبدن الإنساني, بدؤوا يتحدثون عن هذه الصلة التي تحصل في الصلاة عندما يسجد الإنسان على الأرض, وأن الفائدة الصحية التي تحصل عندما يسجد الإنسان على حائل بينه وبين الأرض هي أقل, هذا لا يعني أننا نمتنع عن السجود على السجاد, لكننا نعتقد أن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل, واليوم يظهر في البحوث التي يبحثها العلماء ما يثبت هذا, علماء الكون يقولون: هذا السجود على الأرض فيه الكثير من الفوائد, قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مظهر الحق.
كان صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يتعهد سيدنا عليًا رضي الله عنه بعناية خاصة مع زوجته ابنته الزهراء البتول, القمر فاطمة رضي الله تعالى عنها, كان يأتي في السحر صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى دار سيدنا علي والسيدة فاطمة, الزوجين الحبيبين, وما فعل هذا مع أحد أبدًا. النبي عليه الصلاة والسلام ما قرع باب أحد وقال له: قُم يا هذا إلى صلاة الليل.. أبدًا, هذا لم يفعله صلى الله عليه وسلم إلا مع سيدنا علي والسيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنهما.
هذا أمر لا يتخيله العقل, عندما يأتي سيد الكائنات, سيد الكون, سيدنا محمد, أحب خَلق الله إلى الله, فيقرع الباب ويقول: إلى الصلاة, ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا مع أحد.
قلت سابقًا: لماذا كنت أميل إلى أن لا نذهب إلى التفاضل بين الصحابة؟ إن سيدنا أبو بكر رضي الله عنه فيه من الخصوصيات ما ليس لغيره, وسيدنا عمر رضي الله عنه فيه من الخصوصيات ما ليس لغيره, وسيدنا عثمان رضي الله عنه فيه من الخصوصيات ما ليس لغيره, لم يتكرر لغيره, وسيدنا علي رضي الله عنه فيه من الخصوصيات ما ليس لغيره, فهم الأربعة أقمار الدنيا, أقمار الكون, أقمار الآخرة, هم أفضل الخَلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة.
يقول سيدنا الحسين رضي الله تعالى عنه: سمعت أبي -أي سيدنا علي رضي الله عنه- يقول: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم وفاطمة, وذلك من السحر, في وقت السحر, حتى قام على باب البيت فقال: ألا تصلّون النبي عليه الصلاة والسلام يوقظ سيدنا عليًا, لأنه وقت تنزّل الرحمات, وقت تنزّل الأنوار, الوقت الذي ورد فيه أن المولى ينزل فيه في الثلث الأخير من الليل نزولًا يليق به, ويقول: هل من مُستغفر فأغفر له, هل من سائل فأعطيه.. هذا الوقت لو أننا جرّبنا القيام فيه فإننا لن نتركه.. يا شباب جربوا.. قوموا في السحر.. ناموا وقوموا في السحر.. وليكن بينكم وبين الحق تبارك وتعالى لحظات وصال, اسجدوا في أعتاب الحق, وقولوا: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت, خلقتني وأنا عبدك, وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت, أعوذ بك من شر ما صنعت, أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) هذا سيد الاستغفار, انطرح في أعتاب الله, واسفح مدامعك وأنت ساجد, سترى أن حياتك تتغير.
لماذا أصبحنا جثث هامدة؟ لأننا غفلنا عن خصوصيات الزمان والمكان والأشخاص, هذه خصوصية في وقت خاص, المولى يقول لك فيه.. يا فلان ما تريد أن أغفر لك.. يا فلان أليس عندك حاجة تطلبها مني.. يا فلان ارفع يديك إلي فأنا أريد أن أعطيك..
هذا الوقت الخاص, هذا الوقت العجيب, الذي يكون فيه قرب, ويكون فيه وصال.
وروى أيضًا من هذا البيت الطاهر سيدنا الحسين عن أبيه رضي الله عنهما قال: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضع رجليه بيني وبين فاطمة..) الراوية الأولى: قرع الباب وقال ألا تصلون, الرواية الثانية: دخل صلى الله عليه وسلم إلى البيت ووضع رجليه بين سيدنا علي وبين السيدة فاطمة وهما مضطجعان, قال: (فعلّمنا ما نقول إذا أخذنا مضاجعنا, ثلاث وثلاثين تسبيحة, وثلاث وثلاثين تحميدة, وأربع وثلاثين تكبيرة) يقول سيدنا علي: (فما تركتها بعد).
إنه يحافظ على الأوراد, يحافظ على العهد الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان رضي الله تعالى عنه كما يروي صاحب الحلية أبو نُعيم يعجبه من اللباس ما قَصُر, ومن الطعام ما خَشُن, وكان زمان خلافته رضي الله عنه في محرابه قابضًا على لحيته, يتململ تململ السليم -يعني كأنه ملدوغ قد لدغته أفعى- ويبكي بكاء الحزين, ويقول: يا ربّنا يا ربّنا.. يكررها ويتضرع إلى الله, ثم يقول للدنيا: إليّ تغررت, أي تريدين أن تضحكي عليّ وتخدعيني, إليّ تشوفت, أي تركت الناس كلهم وتتطلعين إليّ لعل المكانة تنزلني منازل الأشقياء, أنا على ما أنا عليه في عهد الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام, إليّ تغررت, إليّ تشوفت, هيهات هيهات, غُرّي غيري, قد بتتك ثلاثة, يعني طلقتك طلاقًا بائنًا ثلاثًا فلا تحلين لي ولا أحل لك, فعمرك قصير, ومجلسك حقير, وخطرك يسير, يعني لا قيمة لك, آه آه من قلّة الزاد -هذا حديث المحراب وهو في المحراب يقول- آه آه من قلّة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق.
وعندما علّق صاحب الحلية على ما تقدّم قال: هو سيّد القوم, مُحِبُّ المشهود, ومحبوب المعبود, رأس المخاطبات, ومُستنبِط الإشارات, المُنْبِئ عن حقائق التوحيد, المُشير إلى لوامع عِلم التفريد, الأُخيشن في دين الله, الممسوس في ذات الله.
يعني الذي لقي الشدائد والمحن وهو ثابت, كأنه يقول :إذا كان هذا ما يرضيك يا ربّ, فأنا على ما تريده.
قيل له: ألا تتخذ حارسًا؟ فقال: خير حارس أجلي. وكان يقول:
أي يومين من الموت أفِر
يوم لا يُقدَر لا أرهبه
يوم لا يُقدَر أم يوم قُدِر
ومن المقدور لا ينجو الحذِر

هذا هو الجانب الأول, الجانب السلوكي الاتباعي العملي, في حياة الإمام سيدنا علي رضي الله تعالى عنه, هناك جانبان: جانب الأخلاق وجانب المعارف والأذواق, لعلنا نُكمل فيما يأتي إن شاء الله.

أعلى الصفحة